تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقفاتٌ مع قوله (وَلَكِنْ مِنْ رِضِيَ وَتَابَعَ)

ـ[أبو زيد الشنقيطي]ــــــــ[29 - 01 - 10, 06:31 ص]ـ

الحمدُ للهِ وصلىَّ اللهُ على ولينا ونبينا محمدٍ وعلى آل بيتِهِ وصحابتِهِ , وبعدُ:

فقد صحَّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - - قَالَ: {سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مِنْ رِضِيَ وَتَابَعَ}.

ولنا مع هذا الحديثِ وقفاتٌ أسألُ الله أن يُخلصَها لوجههِ ويلزِمَناها توفيقاً وعملاً بها.

- هذا الحديثُ النبويُّ الشريفُ وإن سيقَ في أبوابِ الفتنِ وطاعةِ الأمراءِ , إلاَّ أنَّ مدلولهُ أوسعُ من قصرهِ على ذلك فهو يشملُ أبواباً لا تُحصرُ من المناكرِ والمآثمِ التي لا يسعُ المسلمَ فيها غيرُ أحدِ هذه المواقفِ الثلاثةِ الممتنعِ عقلاً أن يكونَ لها رابعٌ , أعني:

إنكارَ المنكرِ وإعلانَ الحربِ عليهِ وتغييرَهُ والوقُوفَ في وجهِ متولِّي كبرِه.

كراهةَ الإثمِ والمنكرِ بالقلبِ والعجزَ عنه مواجهته.

الرِّضى بهِ والفرحُ بظهورهِ ومُتابعةُ أئمَّتهِ والدعاةِ إليهِ , وهذا شريكٌ في الإثمِ وتبعاتهِ وهو والفاعلُ سواءٌ في مقت اللهِ لهُما لأنَّ السكوت على المنكر لمَن رضيه أو وأعان فيه بقول أو فعل اْو متابعة، أو كان يقدر على تغييره ولم يفعل مشاركةٌ ومباركةٌ لهُ, وهذا محلُّ إجماع من أهل العلم.

- هذا الحديثُ يطابقُ في المدلولِ والمعنى آيةً قُرآنيةً أرشدنا الله فيها للمخرجِ من نوادي المنكر ومجالسِ المآثمِ ومنتدياتِ التجريحِ والمغارمِ هي قوله تعالى وتقدسَ {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وسببُ هذه الآيةِ أنَّ من المسلمينَ من كانَ يغشى مجالسَ الكفرةِ التي يُنالُ فيها من رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنُهوا عن ذلك وأُمِروا بتركِ غشيانِ حلَقِ الوقيعةِ ووالبهتنانِ صيانةً لأديانهم.

- قال الإمامُ الطبريُّ رحمه الله (وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم) , قال أبو زيدٍ الشنقيطي: ولا يختلفُ مسلمانِ في أنَّ من أبطلِ الباطلِ وأثومِ القيلِ بعد الشركِ تضييقَ دائرةِ الإسلامِ وإخراجَ الناسِ منها بغير هدىً ولا كتابٍ منير , وهذا جهلٌ من فاعلهِ لأنَّ الرمي بكفرِ مسلمٍ حكمٌ لا يصدرُ عن غير الإمامِ , ومن المجالسةِ والمشاركةِ العصريةِ تمكينُ المنتدياتِ والجرائدِ والمجلاَّتِ مَن يقعُ في أعراضِ العلماءِ تكفيراً وتجريحاً وتقويلاً وتأويلاً لكلامهم ومنعُ التعقيبِ عليهِ في إيماءٍ إلى الرضى بكل ما يتقولهُ ويتأوَّلهُ.

- ليس معنى ما سبقَ أن يمتنعَ النَّاسُ من الرَّدِّ على أهل الباطلِ تأثُّماً , كلاَّ.! , فليس أحدٌ بمنزلةٍ من الكرامةِ على الله يُسكَتُ فيها لهُ إن أخطأ في شريعةِ الله أو جانبَ صوابها , ولكنَّ الواجبَ على الرَّادِّ والمبينِ للحقِّ أن يلتزمَ أدب الكتابِ والسُّنَّةِ في الرَّدِّ ويجعلَ اهتمامَهُ بنقضِ الباطلِ وتبيينِ الحقِّ أهمَّ وأولى من تشريحِ الذَّواتِ ورميِ الجِمارِ , فينصفَ الناسَ بذلك كما أنصفَ الله أهلَ الكتابِ على كثرة مخازيهم وفُجَّارهم فقال {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} وقال {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} , وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ ... } , وقوله {بِئْسَمَا لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ} وقوله {مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ} وقوله {مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ}.

- إنَّ الرضى والمتابعةَ المتوعد صاحبها بكفلٍ من آثامِ العاصي عملٌ قلبيٌّ تظهرُ آثارهُ على اللسانِ والقلمِ والسلطةِ المانعةِ من مواجهةِ الباطلِ , فليسَ المتابعُ في حلٍّ من تبعةِ رضاهُ بالمنكرِ وإن لم ينبس ببنتِ شفةٍ , فالأعمالُ أبلغُ في الدلالةِ من الأقوالِ.

- هاتانِ المرتبتانِ في الحديثِ تتفاوتانِ في الأجرِ عند الله , فمن غلبَ على ظنهِ لحوقُ الأذى به إن أنكرَ ومواجهةُ ما لا قِبَلَ لهُ بهِ فلا يهينُ نفسهُ ويفتنها وواجبهُ الكراهةُ والإنكارُ بالقلبِ , ومن قدر على المقارعةِ والردِّ على المخالفِ وتبيينِ تجاوزهِ الحدَّ في التكفير والتفسيقِ والذب عن أعراضِ المسلمين فهو بخير المنزلتينِ , والله تعالى أعلمُ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير