تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[مقال أثر في غاية التأثير]

ـ[أبوالحسين الدوسري]ــــــــ[10 - 01 - 10, 08:23 ص]ـ

خريف العصافير

للسيخ سلمان العودة

كان الجوّ ذلك المساء لطيفاً وهادئاً، والسماء صافية، تتألق فيها النجوم، الليل يخيم ويلف الساحة الصغيرة في المنزل، ويحيط الوجهين المستديرين بهالةٍ ملائكيةّ عذبة.

يتساءل في سرّه، وهو يهمّ بالمغادرة:

- هل هي المرّة الأخيرة التي يرى فيها نجومَ السماء؟

يكنّ لهما في أعماقه شعوراً استثنائياً، كونهما الأصغر والأكثر حاجة للعطف والاحتواء.

كلما تغرق نفسه في أشغاله ولقاءاته كان ينتشلها بهذه الطفولة الجميلة في عيونهما، فيجلس إليهما ويتعلم كيف يكون.

جرت عادتُه أن يصحبهما في مركبته، أو في مجلسه العامر بالزوّار، وهما يجدان الجرأة لتخطي الحضور للوصول إليه، والقعود على فخذيه بكل حبور .. غير عابئين بوشوشة الكبار .. وتحذيرات الآخرين، فقربهما منه لا يحتاج بطاقة دخول.

وعندما يغدو إلى مسجده على بعد أمتارٍ من منزله؛ يركضان وراءه، ويقعدان حيث يشير إليهما خلف الصفوف، حيث كان يقيم دروسه الصباحية، ريثما ينصرف من صلاته ليتسللوا إليه بخفّة، في سباق لا يكترث لمن حوله.

حين يهمّ أحد كبار السن بزجرهم؛ يجد من يهمس له ليدع الأمر على طبيعته! فيهمهم الرجل العجوز بكل احترام ويمضي لحال سبيله.

يفصل بينهما سنة واحدة لم تكتمل، فالأول ولد في 17/ 12/1410هـ وسمّاه: عبد الرحمن؛ التماساً لبركة الاسم، واتبّاعاً لحديث «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ»

صبي .. ذكيّ جداً، وهادئ، يستوعب المعلومة ويحفظها بسرعة، جدته لأمّه الطيّبة منيرة تفضّله على جميع الصغار، والثاني ولد في 25/ 11/1411هـ، وكانت تسميته "محمّداً" تأسياً باسم النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، لا يقل ذكاءً عن شقيقه، ولكنه عنيد، والعراك ينتهي غالباً لصالحه، مع كونه الأصغر؛ لأنه يخوض الحرب مع مسالم مهضوم الحقوق!

يتعاركان على اللعبة، وعلى الحلْوى، وعلى كتفي الأب الذي اعتادا أن يرتحلاه، وكالعادة فالحرب أوّلها كلام، وتمتدّ لتكون تشابكاً بالأيدي الغضّة، ثم صراخاً واستنجاداً، وتنتهي بالعضّ قبل التدخّل لفض النزاع.

وجد دقائق قبل المغادرة ليحضنهما، ويمطرهما بسيل من القبلات المفعمة بشعور استثنائي، حيث مراكز الإحساس في العقل والروح والجسد تنفذ إليهما عن طريق الشفتين، وهو يضمهما كما يفعل الطائر بفراخه، وكأنه يريد أن يعوّضهما عن غياب طويل محتمل في المستقبل، وعن انشغال مؤكد في الماضي!

يتذكر جيداً ردّة الفعل العفوية حتى كأنها أمامه؛ ابتسامات بريئة محبورة، وتأوّهات من ألم الشعرات التي توشك أن تنغرز في وجناتهم، وكأنها لا تريد أن تفارقهم، وهم يمررون أناملهم الرقيقة على مواضعها! كان يلوّح لهم بقلبه وهو يغادر ..

لا يعرفون كيف غاب، ولا إلى أين؟ ولا متى يؤوب؟ بيد أن القلق وفقد الشهية والرغبة في البكاء هي خير تعبير عن الإحساس بوطأة الحدث عليهم.

يمضي أدراجه, يختلس التفاتات إلى حيث ترك قطعاً من قلبه، وهو يردد قول الشريف الرضي:

وَتَلَفَّتَتْ عَيني فَمُذ خَفِيَت عَنها الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ

السلطان على الجسد، أما الروح فتسبح في الخيال، وتناجي الأطلال، وتمرّ على الديار، وتقبل الجدار بعد الجدار، وحين يفقد سلطانه على الروح؛ تذهب إلى مساكن ألفتها وعرفتها، وتعلقت بساكنيها.

يصحو ذات يوم على وقع أقدام الحارس: استعد .. تَلبّس .. لديك زيارة!

المجلس ذو صبغة رسمية، وصلوا إليه بعد تحقيق وتدقيق، وانتظروا بشوق يلفّه الخوف، أو خوف يلفّه الشوق، خوف الصغار حين يرون البدلة الرسمية والوجوه الغريبة.

طمأنهم قدومه سريعاً مبتسماً، العناق يتحول إلى التزام وتضامّ، والقلوب على القلوب تحكي آلام الغياب والحرمان، والعيون تتحدث بلغتها الصامتة، ودموعها المخزونة التي آن لها أن تفيض، والخال يقول:

- دعهم! فلا خير في الدمع إن لم يسعف في مثل هذا الموقف.

الأخوال الذين كانوا مثال المروءة والصبر والخلق الكريم، والذين واسوهم بصغارهم، يرقبون المشهد بغبطة وارتياح، ويدعون الفرصة للطفولة أن تعبّر عن ذاتها، وأن تدرك ثأرها من الفراق الطويل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير