فذلك كله مما يفرح المسلم بهذه الدنيا، لأنه إذا ابتلي؛ فإنه ممن أراد الله تعالى به خيرا، وأنه ممن يكفر الله عنه ما يقع فيه، كما روي أن أبا بكر - رضي الله عنه- سمع آية في سورة النساء هي قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فقالوا يا رسول الله: هذه قاصمة الظهر، إذا كان كل من عمل شيئا فإنه يجزى به، نحن سنجزى بالسوء الذي عملناه قديما أو حديثا، فبشرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الجزاء الذي تجزون به هو ما ينالكم في الدنيا من الهم والغم والألم والمصائب والحزن وما أشبه ذلك، وبشرهم أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه".
فقال: هذا هو الذي تجزون به، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أي يجازيه الله به في الدنيا؛ فإن كان مؤمنا؛ جازاه الله في الدنيا، وكان ذلك الذي يصيبه من الهم ونحوه جزاء ما عمله من السوء.
وأما إن لم يكن مؤمنا؛ فإنه تؤخر له سيئاته حتى يجازى بها، في الآخرة عذاب أليم شديد -والعياذ بالله- فكثير من السلف كانوا يفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالنعمة.
ومن أراد التوسع في ذلك؛ فليقرأ كتاب ابن القيم الذي سماه عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين أوله: يتعلق بالصبر وبالمصائب، وبما يحصل من أثر الصبر والتحمل، وآخره: يتعلق بالشكر، فالصبر يكون على المصائب، والشكر يكون على النعم وعلى الخيرات، وكلاهما فيه أجر، وفيه خير للمؤمن.
ولا شك أن المؤمن لما يلتزم بالصبر على ما يصيبه، وأن يكون ممن يقوم بأمر الله، ويعمل بما أمر به، ويظهر دينه، ويظهر ما ألزم به، ولا يبالي ولا يخاف في الله لومة لائم؛ فلذلك يكون حقا من القائمين بأمر الله تعالى، ومن الذين ينالهم الأجر.
ففي قوله - فيما أخبر الله تعالى به من المصائب ونحوها- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] الفتنة تكون عند إظهار الدين، فلو أن الناس كلهم جهلوا، وسكتوا، واقتصروا على أنفسهم، ولم يتدخلوا في أمور الناس، ولم يأمروا بالخير، ولم يدعوا إليه؛ لظهر الشر وتمكن، وأصبح الأشرار يسومون الناس سوء العذاب، وأصبح أهل الخير أذلاء مغمورين مقهورين ليس لهم تصرف، وليس لهم أية اختيار.
أما إذا عرف أهل الخير أنهم مكلفون بأن يدعوا إلى الله تعالى، وبأن ينكروا على من خالف الطريق السوي المستقيم، وبأن يجهروا بدينهم، ويظهروا الإنكار على من خالف الحق، ولو كان ما كان، ويتحملوا ما يحدث لهم فإنهم -والحال هذه- يصيرون بذلك قد أظهروا أمر الله تعالى، وأطاعوه فيما كلفهم وفيما أمرهم.
ولقد وصف الله تعالى الصحابة -رضي الله عنهم- بقوله .. فنعرف أن الله تعالى وصف الصحابة بست صفات في قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] الصفة السادسة قوله {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي: لا يخافون في ذات الله لوم من يلومهم، ولا إنكار من ينكر عليهم، ولا يخشون من أذى، أو من عذاب أو من بطش أو نحو ذلك، بل يجهرون بالحق ويسطعون به ويظهرونه مهما كانت الأحوال.
هكذا أخبر الله بصفاتهم، وكذلك في الحديث الذي فيه وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر يقول: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع" إلى أن قال:"وأمرني أن أقول الحق، وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم".
فقول الحق يعني: الجهر به بين الناس، وعدم المخافتة، أو عدم المداهنة في الجهر بالحق، هكذا أخبر أنه لا بد أن يكون الإنسان يقول الحق، ولو كان مرا، ولو على نفسه، وأن يجهر في ذات الله تعالى بما أمره به.
وعلى كل حال فهذا ونحوه دليل على أن المسلم عليه أن يصبر على الجهر بالحق، وعلى تغيير المنكر، ويتحمل ما أصابه، ويعرف أن ذلك في سبيل الله، كما ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم مرة دميت إصبعه في سبيل الله فقال: "هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ".
احتسب هذا الجرح الذي حصل في إصبعه، وجعله في سبيل الله تعالى، .. وذلك حتى تعرض الإنسان للقتل في سبيل الله بأيدي الأعداء، كل ذلك مما يثاب عليه، ويضاعف به الأجر والثواب.
ويصبر المسلم على ما حصل له في هذه الحياة الدنيا، ويتحمل الصعوبات والمشاق، ويعرف أن الله تعالى سيجعل له من بعد عسر يسرا، كما وعد الله تعالى ووعده حق وصدق، وقد ورد في بعض الأحاديث: "لن يغلب عسر يسرين" وقالوا: إن ذلك في قوله تعالى: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" [الشرح:5 - 6] العسر هنا معرف بالألف واللام؛ فهو واحد، واليسر منكر في الموضعين يدل على أنه يسران"لن يغلب عسر يسرين".
فإذا كان الله أخبر بأن هناك يسرين، وأن العسر واحد؛ فإنه سوف يغلب، ويكون معه عسر واحد؛ فنصبر ونتحمل ولا نستبطئ الفرج، بل نستمر على ذلك مهما حصل لنا إلى أن يتحقق وعد الله تعالى بالفرج الذي هو فرج بعد شدة، وبعد ضيق، وهنالك نحمد العاقبة على ما أصابنا، ونحتسب أيضا الأجر والثواب المضاعف عند الله تعالى.
نسأل الله أن يرزقنا الصبر والاحتساب، وأن يجعلنا من الذين لا يخافون فيه لومة لائم، وأن يرزقنا القول بالحق واتباعه، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من محاضرة للشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
رحمه الله
الرابط: http://www.ibn-jebreen.com/article2.php?id=79
رابط الاستماع: http://www.ibn-jebreen.com/book.php?cat=8&book=121&toc=7463&page=6564&subid=32879