"في لازم مدلوله" أخرج به إعمال الدليل في مدلوله. والدليل هو: ما يمكن التوصل به إلى مطلوب خبري والمطلوب هو: المدلول. فالنهي الوارد مثلا في نكاح الشغار دليل، مدلوله: تحريم نكاح الشغار. ولازم هذا المدلول فسخه، ودل عليه دليل النهي، لأنه يدل على فساد المنهي عنه وفسخه. ونكاح الشغار إذا وقع يجب فسخه عند الإمام مالك رضي الله عنه بطلاق في رواية، ومن خالف مالكا يقول: بأنه لا يجب فسخه. والجاري على هذه الرواية وقوع الميراث بين الزوجين إذا مات أحدهما. فالجاري على أصل دليله ولازم قوله أنه: لا ميراث، فلما قال بثبوت الميراث فقد أعمل دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار. وعدم الفسخ لازمه ثبوت الميراث بين الزوجين، فأعمل مالك رحم الله تعالى دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار في لازم مدلوله وهو ثبوت الميراث.
أقوال المالكية في أصل "مراعاة الخلاف" والمناقشات الدائرة:
أقوال المالكية في هذا الأصل:
قال المقري: "من أصول المالكية: مراعاة الخلاف، وقد اختلفوا فيه، ثم في المراعي أهو المشهور وحده؟ أم كل خلاف؟ ثم المشهور أهو ما كثر قائله؟ أم ما قوي دليله؟ ". وقال الشاطبي: "إن الباجي حكى خلافا في اعتبار مراعاة الخلاف". والذي في أحكام الفصول للباجي: "عندنا أنه يصح أن يكون الاختلاف علة" ثم قال الباجي: "وقد منعه قوم من المتفقهة". وقال الشاطبي: "مراعاة الخلاف من محاسن هذا المذهب"، وقال: "وإنه من جملة الاستحسان"، وذكر ذلك علال الفاسي.
المناقشات والاعتراضات الواردة على أصل "مراعاة الخلاف" والأجوبة عليها: اعترض على أصل "مراعاة الخلاف" جماعة من الفقهاء المالكية، منهم اللخمي وعياض والقباب وابن عبد البر.
وقد جرت مناقشات بين الشاطبي وشيوخه في "مراعاة الخلاف" وتبادل رسائل بينه وبين القباب. وذكر الشاطبي: أن هذه الإيرادات صادرة لمنكري طريقة الاستحسان. وقال الشاطبي: "ولقد كنت أنحى هذا المنحى لولا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير.
وجه الاعتراضات:
1 - إن الدليل هو المتبع، فحيثما صار صير إليه، ومتى ترجح عند المجتهد أحد الدليلين على الآخر ولو بأدنى وجه الترجيح وجب التعويل عليه، وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في أصول الفقه. فإذا رجوعه إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب اتباعه، وذلك خلاف القواعد والقياس.
2 - قول المفتي: هذا لا يجوز ابتداء، وبعد الوقوع يقول بجوازه، أنه يصير الممنوع إذا فعل جائز، وإنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم.
3 - إنه غير مطرد في كل مسألة وهو مشكل، لأنه إن كان حجة عمت في كل مسألة وإلا بطلت لأن تخصيصه إن كان حجة ببعض المسائل دون بعض تحكم أي ترجيح بلا مرجح.
الأجوبة على الاعتراضات:
1 - إن رعايته يراد اعتبار من لا مطلقا، مثال ذلك: أن يترجح دليل الإباحة عنده ومذهب غيره التحريم، فإذا توسط الأمر وقال بالكراهة كما توسطوا في المشهور في الماء المستعمل بأنه مكروه للخلاف بين القول بنجاسته وبين القول بأنه طاهر غير مطهر. فإن قلت: هذا إسقاط للدليلين معا، إذ الكراهة ضد الإباحة وضد التحريم، فبضدهما عملتم إذا. فالجواب: أنه إذا تعارض دليلان في قاعدة احتياطا عرض حينئذ دليل ثالث يِؤخذ من قواعد الشريعة يقتضي إيجاب طلب السلامة واتقاء الشبهة والتخلص من الإشكال، فرعاية الخلاف حينئذ عمل بدليل ثالث عند تعارض الدليلين، فلا اعتراض حينئذ.
2 - أما كون رعي الخلاف حجة في بعض المسائل دون بعض، فضابط ذلك رجحان دليل المخالف عند المجتهد على دليله في لازم مدلول دليل المخالف، فليس تحكما لأن له مرجحا، وثبوت الرجحان ونفيه إنما يكون بحسب نظر المجتهد في النوازل.
3 - أما الشاطبي فبعد أن أثبت أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية، قال: "هذا الأصل يبنى عليه قواعد، قاعدة الذرائع، وقاعدة الحيل، وقاعدة مراعاة الخلاف".
¥