فدونك رب الخلق فاقصده ضارعاً
...
وأما رضانا بالقضاء فإنما
كسقم وفقر ثم ذل وغربة
وأما الأفاعيل التي كُرهت لنا
وقد قال قوم من أولي العلم لا رضاً
وقال فريق نرتضي بقضائه
وقال فريق نرتضي بإضافة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه
يخاصم رب العرش باري البرية
قديماً به إبليس أصل البلية
هو الخوض في فعل الإله بعلة
...
من الغدر مردود لدى كل فطرة
وكل غوي خارج عن محجة
من الناس في نفس ومال وحرمة
ولا سارقٍ مالاً لصاحب فاقة
ولا ناكح فرجاً على وجه زينة
ولا مفسدٍ في الأرض من كل وجهة
...
قبول لقول النذل فما وجه حليتي؟!
وكل بتقدير لرب المشيئة
وتعذيب نارٍ بعد جرعة غصة
...
ينجيك من نار الإله العظيمة
مريداً لأن يهديك نحو الحقيقة
...
أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
وما كان من مؤذٍ بدون جريمة
فلا هن مأتي في رضاها بطاعة
بفعل المعاصي والذنوب الكريهة
ولا نرتضي المقضي لأقبح خُلَّة
إليه وما فينا فيلقي بسخطه
ونسخطه من وجه اكتساب بحيلة
وقد تتابع العلماء بذكرها ومنهم من شرحها لجلال قدرها، ومما يدل على حضور بديهته أنه قد جاءته امرأة تسأله سؤالاً وهو (1):
سؤال:
جدتي أمه وأبي جده
أفتنا يا إمام يرحمك الله وأنا عمة له وهْو خالي
ويكفيك حادثات الليالي
الجواب:
رجل زوج ابنه أم بنتٍ
فأتت منه بالتي قالت الشعر وأتى البنت بالنكاح الحلال
وقالت لابن هاتيك: خالي
فمن هذه الأجوبة السريعة وحضور البديهة لدلالة واضحة على عبقرية هذا الإمام وهذه الذاكرة التي تسعف صاحبها في إبانة رأيه وتوضيحه كما أنها تؤازره في ترسيخ مفهوم يود إيصاله للآخرين وهي بمنزلة الروح للبدن حيث إن العالم الإمام يحتاج إلى ملكة كي يبين أحكام الشريعة الغراء على أكمل وجه "بل إنه ألف في قعدة "الحموية" ألفها بين الظهرين سنة 698هـ وعمره سبع وثلاثون سنة .. وألف بعض كتبه وهو في السجن" (1)، ووصفه من رآه من تلاميذه بقوله: "وقل أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر" (2).
المطلب السادس: استقلاله الفكري:
لم يكن الإمام ابن تيمية أول من عرف من آل تيمية بالعلم الشرعي .. فهي سلالة يتوارث رجالها العلم واحد تلو الآخر ومن هؤلاء وأشهرهم جده الإمام الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية الذي عرف بالتضلع في العلوم الشرعية وكذلك كان والده الإمام الشيخ شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم (3)، وإن نشأته العلمية الأولى المتمثلة في أسرته وبيئته قد أكسبته نبوغاً مبكراً وشغفاً وتعطشاً لدراسة علوم الشريعة وعلوم اللغة إضافة إلى كون دمشق كعبة القصاد الطالبين للعلم الشرعي ومع هذا فلم تقتصر دراسته على مذهب فقهي أو عقدي معين بل كان واسع الاطلاع متعدد المعرفة في شتى العلوم مما جعله يترفع عن التقليد ويتسامى عن التعصب لفئة أو لشخص إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته الغراء.
ومع هذه النشأة العلمية التي تربى في أحضانها فإنه شب عن الطوق وتبحر في العلوم النقلية والعقلية وقد وصفه إمام من أئمة عصره صاحبه وتلميذه الإمام الذهبي بقوله:"وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده" (1)، ومما يميزه عن غيره من العلماء أنه "يدرس كتاب الله وسنة رسوله وآثار السلف الصالح في أي أمر يعرض له أو يسأل عنه فما يصل إليه يعتنقه ويدعو إليه لا يهمه أخالفه الناس أم وافقوا فهو ليس تابعاً لما يجري على ألسنة علماء عصره" (2) فهو يجعل الدليل نصب عينيه لا يحيد عنه قيد أنملة وهذا الاستقلال الفكري في البحث والإفتاء جعله كالشامة بين أقرانه، وهذا الاستقلال عنده في أصول الدين وفروعه كما حكى ذلك عن نفسه بقوله: "مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي ولا انتصرت لذلك ولا أذكره في كلامي ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وقد قلت لهم غير مرة: أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين أن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته" (3)، وقوله هذا إنما يدل على أن "المسلم المتعلم إنما يكون مسلماً متعلماً بالاستقلال في العقيدة الدينية ولا يجوز للمسلم تقليد غيره من المسلمين في العقيدة فما ظنك بتقليد غير المسلمين؟؟! " (4) هذا بالنسبة للفرد العادي فما بالنا
¥