قلت: فقسم ترك الفعل إلى قسمين:
(1) ترك مجرد.
(2) وترك يقوم معه المقتضي له.
وكلاهما عنده يفيدان عدم الاستحباب وعدم الإيجاب كثيراً، فإن قام المقتضي وتركه تأكد عدم المشروعية.
وذلك لأنني عبيدٌ لا يحق لنا أن نتصرف في ملك سيدنا –وهو الله عز وجل- إلا بأمره، وأمره جاء عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يأمر وينهى ويقر ويكف عن أمورٍ لا يباح لنا فعلها إلا بلدليل منه كلياً كان أو جزئياً.
فإن أقر الخصم بأنه أيضاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور الأصوليين فإنه يفيد مطلق المنع، ثم يكون الكلام في نوعية هذا المنع، للتحريم أم للكراهة.
توجه القرائن دلالة الفعل من حيث الوجوب أو الندب أو الإباحة.
وكذلك القرائن توجه دلالة الترك من حيث التحريم من الكراهة.
وترك الاحتفال بذكرى المولد النبوي محتف بقرائن تدل على التحريم، وبيانها في الوجه الثاني:
الوجه الثاني: أن هذا ليس هو الوجه الوحيد عند العلماء في منعهم لهذا الاحتفال!، بما هو صريح الدلالة في الباب، ومن ذلك:
تحريم المشابهة بالمشركين، وهذا النوع من الاحتفالات لم يكن من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عادات العرب الذين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم لا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ولا بعدها، وإنما هو من شأن النصارى الذين نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وهذا على انفراده دليل واضح على المنع منه، ومن قال بأنه عادة لا عبادة، تزداد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض عادات الكفار كاتخاذ الخاتم ونحوه، ومثل هذه العادة الحظ فيها أكبر وأقوى إلى أن تنقل إلى عادات المسلمين، ومع ذلك لم ينقلها إلينا النبي صلى الله عليه وسلم.
أيضاً: منع أهل السنة من الاحتفال بذكرى المولد لما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أنس بن مالك قال: قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ولهم يومانِ يلعبونَ فيهما، قال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهِلِيَّةِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (قد أبْدَلَكُم الله خيرا منهما: يَوْمَ الأضْحَى، ويومَ الفِطْرِ) أخرجه أبو داود والنسائي.
فهذا نص صريح على أنه ليس في الإسلام إلا عيدان في كلّ عام: عيد الأضحى وعيد الفطر.
وكذلك عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحداث في الدين، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (شر الأمور محدثاتها) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن كلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) رواه الإمام أحمد وغيره.
ومن يحتفل بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم يعده من أعظم القرب لإثبات محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يُعظم النكير على من منعه وحذر منه، وألحق به فرية كره الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم محبته.
الوجه الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من ترك النبي صلى الله عليه وسلم عدم الفعل، واعتبروه شريعة يتأسى به فيها، فكان الأصل عندهم متابعته في الترك، ولما ترك النبي ? أكل لحم الضب تركه أصحابه ?، بل حمله خالد بن الوليد على التحريم فقال: (أحرامٌ الضب يا رسول الله؟).
فدلّ على أن الأصل في تركه المنع من فعل المتروك، حتى جاء الخبر المبين بأن هذا الترك إنما هو لأمرٍ جبلي عادي، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدِني أعَافُه) متفق عليه.
وكذلك ترك الصحابة رضي الله عنهم استلام الركنين الشاميين، لتركه الخاص، ولقوله: (خذوا عني مناسككم).
الوجه الرابع: ولو لم يكن الترك يدل على حكمٍ شرعيٍّ لما نقله الصحابة رضي الله عنهم في أكثر من موطن كقولهم: (وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) وقوله في صلاة العيد: (لَمْ يَكُنْ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا نِدَاءٌ) وقوله في جمعه بَين الصلاتين: (وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى أَثَرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) ونحو ذلك، فدل ذلك كلّه على أن مجرد الترك عندهم معتبر وأنه سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لما نقلوه.
¥