بل يصرحون بأن ذلك كان من تدبير الله عز وجل، يقول بن القيم (ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم به جموعهم وفلَّ به حدهم فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر ... ) (19) وابن هشام بعد سرد القصة يقول (وخذَّل بينهم) (20). ينسب الفعل لنعيم بن مسعود. والعقاد ينسب الفعل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكأنه خطط له ودبر، وكأنه هو الذي جاء بنعيم بن مسعود وهو الذي رسم له الخطة وأعانه على تنفيذها، كل ذلك لأن الرجل لا يرى أثر الوحي.
وهو متردد كعادته ففي مكانٍ آخر أسند الفعل إلى نعيم بن مسعود لا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
العقاد يُعِّرف الرسول!
يسأل في بداية (عبقرية محمد) من هو الرسول؟ ويجيب: (هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعاً يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم)
لاحظ: لا تسمع حسّاً للوحي في كلامه!!
العقاد يعرف البلاغ المبين
ويتكلم عن البلاغ، ويأتي بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة (اللهم هل بلغت اللهم فاشهد) ويحور ويدور ليعطي البلاغ معناً غير الوحي .. غير البلاغ عن الله، يفسر البلاغ بالإبلاغ .. البلاغ عند العقاد أسلوب من أساليب التعبير يستطيع بها المتكلم أن يوصل المعنى من أقصر طريق وأوضحه.!!
كل هذا لينكر الوحي، وليقول بنظرية (الوعي الكوني) والتي من صِوَرِها (العبقريات) أو لينتصر للفردية، وهي منهجه في التفكير، وقضيته الرئيسية التي كتب من أجلها العبقريات.
وكل الشريعة وكل الملتزمين بها، بل وكل المنصفين من الناطقين بالضاد، يتجمعون في وجه العقاد رفضاً لكلامه، فهو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ورسول تعني مرسول من عند الله برسالة، وفي التنزيل {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} التغابن12، {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} العنكبوت18،
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} النور54،
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} النحل82
{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} النحل35
{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} المائدة92 وعلى لسان الرسل يقول الله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} يس17
والبلاغ المبين هو: الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها (21). أو هو الَّذِي يُبِين عن معناه لمن أَبْلَغَهُ (22) , ويفهمه من أُرْسِلَ إليه (23).
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأتنا فقط بألفاظ القرآن بل بألفاظ القرآن وبمراد الله من هذه الألفاظ.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يتلقوا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط منطوق القرآن الكريم ثم ذهبوا يفهمونها كما شاءوا. لا. بل كانوا يتعلمون الإيمان ثم يضبطون ما فهموه بالقرآن الكريم كما جاء في الحديث. عن جُنْدُبِ بن عبد الله قال كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ ونحن فتيان حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا (24).
وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أَبِي عبد الرحمن (25) قال: حدثنا من كان يُقْرِئُنَا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم كانوا يَقْتَرِئُونَ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
¥