تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولقد تأملت هذه المسألة، وكلما هممت أن أقول بما ذهب إليه بعض الناس في هذا الحديث، وجدتني خائفا أن أقول في كلام الله عزوجل ما لا أعلم، وأن بقائي على ما يدل عليه ظاهر الحديث مع تنزيه الله عزوجل عما لا يليق به من مماثلة الخلق، ومع الكف عن تكييف صفاته، أسلم في عقيدتي، وأبعد لي عن التكلف، و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.

وإني لأشكر فضيلتكم على ما أتحفتموني به من كلام شيخ الإسلام في نقضه كلام الرازي، فنعم التحفة ونعم من أتحف بها أصلا ونقلا.

ولا يخفى على فضيلتكم ما لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – من التحقيق في المنقول والمعقول، مما جعل كلامه – رحمه الله تعالى – له الأثر في النفوس والقبول، تغمده الله برحمته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.

لكن لا يخفى على فضيلتكم أن جل كلامه الذي نقلتم إنما هو مسألة التقرب، لأنه هو الذي ذكر بلفظ المساحة، ومع ذلك فقد أورده الشيخ – رحمه الله تعالى – بذلك الترديد حيث قال:

(إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب المساحة المذكورة أو لا يكون، فإن كان ذلك هو ظاهر اللفظ، فإما أن يكون ممكنا أو لا يكون ممكنا، فإن كان ممكنا فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر، وإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه، وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه، وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب؛ فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بحركة بدنه شبرا وذراعا ومشيا وهرولة.

لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكا، فيقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية، فيكون بمعنى الخطاب ما ظهر بها لا ما ظهر بدونها) اهـ المقصود منه.

فأنت ترى – حفظك الله – أن الشيخ – رحمه الله تعالى – جعل الأمر مترددا بين أن يكون التقرب بالمساحة ظاهر اللفظ، أو لا يكون، وإنه إن كان ظاهر اللفظ فإما أن يكون ممكنا أو لا يكون، وأنه إن كان ممكنا، فالآخر أيضا ممكن، وإن لم يكن ممكنا فالآخر من جنس ذلك، ولا يمكن أن يكون غير الممكن ظاهر الخطاب لامتناعه، يعني أننا إذا قلنا: إن تقرب العبد إلى ربه بالمساحة الشبر والذراع غير ممكن، صار تقرب الله تعالى بالذراع والباع غير ممكن، وإن كان غير ممكن امتنع أن يكون هو ظاهر الخطاب؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله تعالى أمرا مستحيلا.

وأما قوله – رحمه الله تعالى -:

(ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بحركة بدنه شبرا وذراعا ومشيا وهرولة).

فإنه قد يقال: ما الذي يمنع ذلك، فإن العبد يتقرب إلى ربه بحركة قلبه وحركة بدنه، ولهذا يقال: القلوب جوالة، فقلب يحوم حول العرش، وقلب يتجول حول الحش، وحركة القلب وشعور العبد بقربه من ربه بقلبه أمر معلوم، وكذلك حركة البدن التي يتقرب العبد بها إلى ربه بكون الحركة نفسها عبادة، أو يتوصل بها إلى عبادة، أمر معلوم، ألا ترى إلى قوله تعالى في شأن موسى:

{وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا}، قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -:

(كلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه) اهـ.

و لا يخفى على فضيلتكم ما رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:

" إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا".

وما رواه أحمد ومسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:

" ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء".

ودنوه جل وعلا –كما يعلم فضيلتكم- لا ينافي علوه تعالى، قال شيخ الإسلام في الفتاوى (جمع ابن قاسم 5/ 460):

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير