وإذا لم يكن بدٌّ من تصديق العقل لم يمكنك أن تتمارى في نفي الجهة عن الله، ونفي الصورة.
وإذا قيل لك: إن الأعمال توزن، علمتَ أن الأعمال عرض لا يوزن، فلا بد من تأويل.
وإذا سمعت: (أن الموت يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح) علمت أنه مؤول، إذ الموت عرض لا يؤتى به، إذ الاتيان انتقالٌ، ولا يجوز على العرض، ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح، إذ الأعراض لا تنقلب أجساماً، ولا يذبح الموت، إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ما له رقبة ولا بدن، فإنه عرض أو عدم عرض عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذن لا بد من التأويل. اهـ
إذا هو نادى بضرورة تأويل الميزان لأنه عرض والأعراض لا توزن، وبضرورة تأويل خبر الإتيان بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح بدعوى أن الموت عرض والعرض لا يؤتى به ولا ينقلب جسماً.
وقد وافق بذلك المعتزلة الذين أولوا الميزان بناء على مذهبهم أن الميزان عرض وأن الأعراض لا توزن.
وقد نقل ابن حجر في الفتح كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار اعتراض أبو بكر بن العربي والمازري والقرطبي .. مع أن مذهب الأشعرية تقديم النقل على العقل في باب السمعيات وهو أمور الآخرة ..
فلماذا هذا التناقض؟ فالقوم ما تركوا باب التأويل حتى في أمور الآخرة التي ادعوا التسليم للنصوص فيها بلا تأويل.
القول بالمجاز ورده
الأشعري يرد على المتأخرين في موضوع المجاز
ذكر الإمام السيوطي في كتابه المزهر (1/ 24) قوله: إذا قلنا بقول الأشعري إن اللغات توقيفيَّة ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابنُ الحاجب وغيره: أحدُها بالوَحْي إلى بعض الأنبياء والثاني بخَلق الأصوات في بعض الأجسام والثالث بعلمٍ ضروري خلَقه في بعضهم حَصَل به إفادةُ اللَّفظ للمعنى. اهـ
إذا: فموقف الإمام الأشعري من اللغة أنها توقيفية، وأن أصل صحة الاستعمال السماع، وذلك خلافاً للمعتزلة الذين قالوا إنها اصطلاحية حتى جعلوا أكثرها مجازاً لا حقيقة!!
والمعتزلة ويمثلهم القاضي عبد الجبار والجاحظ والزمخشري وأضرابهم، قالوا بهذا المجاز ونافحوا عنه، وحملهم هذا على التوسع في تأويل النصوص، بذريعة القول بالمجاز ..
فاتبع الأشعرية المتأخرين أصحابهم من المعتزلة وقالوا بقولهم بالمجاز حتى أصبح معولاً يهدمون به النصوص من الكتاب والسنة ..
والغريب أنهم يصفون أنفسهم بمحاربة المعتزلة وهم يسيرون وراءهم حذو القذة بالقذة.
والأدهى من ذلك أنهكم منسوبون للإمام الأشعري ويخالفونه جهارا!!
وحبذا لو قرأ طالب العلم كلام ابن القيم على طاغوت المجاز في تحفته الرائعة القالتة للمبتدعة الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
وقال الألوسي في تفسير سورة الفاتحة (1/ 27):
ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لاستحالة اتصافه بما نتصف به فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضاً فيها إذا أثبتت لله تعالى وما سمعنا أحداً قال بذلك وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه عز شأنه أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه. والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته والعجز عن درك الإدراك إدراك فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكماً بحتاً. اهـ
الجويني وخبر الآحاد
خبر الآحاد مقبول في العقائد وفي غيرها؛ لأن العبرة فيه بالصحة، فإذا صح وعلمت صحته حصلت الثقة به، وقد ذهب بعض المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم إلى أن أخبار الآحاد إنما يعمل بها في الجانب العملي لا في العقدي، وهذا القول لا حجة عليه، فإذا اتفقوا على صحتها وأنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن الطعن فيها لا من ناحية الدلالة ولا من ناحية الإسناد.
والجويني مضطرب في هذا الباب، ففي الورقات (ص25) قال:
والخبر ينقسم إلى قسمين آحاد ومتواتر، فالمتواتر ما يوجب العلم ... والآحاد هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم. اهـ
¥