ثم إن أهل التأويل اختلفوا في معنى (شفاء) فمنهم من خصه بشفاء الأرواح من أدوائها المعنوية، كشفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه، ومنهم من خصه بشفاء الأسقام الحسية والأمراض الظاهرة بالرقي والتعوّذ ونحو ذلك، ومنهم من حملها على المعنيين وهو الصحيح لتناول اللفظ لمجموعهما وعدم ورود مايخصص أحد المعنيين. [وقد نقل هذه الأقوال لاشوكاني في تفسيره وغيره رحمه الله].
فيبقى الكافر ومطلق الظالم مشتركان في عدم الانتفاع بالمعنى الأول على تفاوت بينهما، يقل ويكثر بحسب ظلم الظالمـ وهؤلاء جميعاً يكون القرآن حجة عليهم فما تزيدهم آياته مع مخالفتهم لها إلاّ خساراً، وأما من نفى أن يكون ظالم المسلمين المخالف لآيات رب العالمين غير داخل في وعيد قوله (ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً) فهو من يحتاج نفيه إلى برهان يبين إرادة المشركين وحدهم من جملة الظالمين، ولا يصح أن يكون التخصيص بالنقول التي نص فيها السلف على عدم انتفاع الكافر والمشرك من هدى القرآن فهذا تفسير ببعض الأفراد لايعارض إرادة غيره، والله أعلم.
وكما ذكر أهل العلم في الشفاء ثلاثة أقوال فقد نقلوا في الخسار قولين:
أحدهما: يزيدهم خساراً لزيادة تكذيبهم.
الثاني: يزيدهم خساراً لزيادة ما يرد فيه من عذابهم.
وكل هذه تتعلق بمعنى الشفاء الأول، مع أن هذه الآية لايفهم منها أن الكافر لايمكن أن يحصل له هذا النوع من الشفاء بالقرآن، فالقرآن أنزل لشفاء هذا الأنوع الثلاثة من الأسقام، بل أنزل لشفاء أمثال هؤلاء المرضى ابتداء، فهو شفاء لسقم الضلال، وكم من فئام سمعت القرآن حال الكفر فمن الله عليها بالشفاء، فنفعهم القرآن وشفاهم الله به من أدواء الشرك ليصبحوا في عداد خير أهل الإسلام، وكلنا يعرف قصة جبير بن مطعم في الصحيحين يوم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لأول الطور فكانت سبباً لإسلامه.
وإنما المقصود هو بيان أن القرآن هدى، ولكنه لايناله إلاّ الأبرار فيكون لهم رحمة، مع كونه شفاء في نفسه بغير امتراء، أخذه وقبله من أخذه، وتركه ورفضه من تركه.
وإذا صح أن القرآن شفاء للأسقام الحسية فإن ذلك من جملة بركته كما قال الله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك)، وجنس هذه الأسقام وأسبابها يستوي فيها المسلم والكافر، ولهذا ينجع الدواء المادي في كليهما، فإذا صح أن القرآن شفاء منها فلا معنى لتخصيص تأثيره بأسقام المؤمن دون الكافر ولا دليل.
وإذا كانت الرقية متعلقة بظلم جني لإنسي تلبس فيه، فكيف يقال إذا أصاب الجني المسلم عمرو ورقاه القارئ زيد فإن الجني يتأثر بالقرآن فيخرج فيعافى المريض، وإذا تلبس نفس الجني بكافر فإن القرآن لايؤثر فيه رغم أن القارئ هو القارئ؟
وفي الختام الله أخبرنا بأن القرآن شفاء فمن خصص جنس الكافر فقد خصص بغير نص مخصص، بل خصصه بمفهوم لمطلق فعارض به النص ولعل قوله هذا لم يقل به أحد من السلف.
ومن اشترط في الرقية إسلام المرقي فقد جاء بشرط لم يدل عليه دليل صحيح معتبر والله أعلم.
ـ[أبو عبد الرحمن الشهري]ــــــــ[07 - 12 - 04, 04:45 م]ـ
أخي حارث همام وفقك الله وزادك علما وتوفيقا.
في الجملة نحن متفقون على جواز رقية الكافر بناء على ما سبق ذكره ويبقى الخلاف في بعض الجزئيات.وأسمح لي ببعض الاعتراضات على ما أوردتم ليس من باب الجدل ولكن لأستفيد أنا وأنت والقارئ جميعا.
أخي الحبيب لنظر لتعريف الإسلام ولإيمان ليتضح لنا هل لفظ الظالمين في الآية السابقة يد خل فيه المسلمين.
قال العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله الإسلام عند الإطلاق يدخل فيه الإيمان لأنه لا يمكن أن يقوم بشعائر الإسلام إلا من كان مؤمناً
فإذا ذكر الإسلام وحده شمل الإيمان
وإذا ذكر الإيمان وحده شمل الإسلام
وإذا ذكرا جميعاً صار الإيمان يتعلق بالقلوب، والإسلام يتعلق بالجوارح
وهذه فائدة مهمة لطالب العلم فالإسلام إذا ذكر وحده دخل فيه الإيمان قال الله تعالى:) إن الدين عند الله الإسلام ((2). ومن المعلوم أن دين الإسلام عقيدة وإيمان وشرائع، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا جميعاً صار الإيمان ما يتعلق بالقلوب، والإسلام ما يتعلق بالجوارح.
وبهذا إذا تأملت قوله تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) (الإسراء: 82)
عرفت أن الله ذكر في هذه الآية المؤمنين الذين هم المسلمين بناء على ما تقدم في مقابل الظالمين الذين هم غير المسلمين.
فإذا سلمتم بهذه الجزئية أن المسلمين لا يدخلون في لفظ الظالمين المذكور في الآية انتقلنا إلى غيرها إن كان بقي هناك شيء مختلف عليه.
ـ[حارث همام]ــــــــ[07 - 12 - 04, 06:30 م]ـ
ألتزم بأن المؤمنين يدخل فيهم عموم المسلمين عند الافتراق على الصحيح، ولكن لا أسلم بأن لفظ الظالمين لايتناول أهل الإسلام في الآية وليس ذلك لازماً للمقدمة الأولى فيلتزم، بل الآية ذكرت أن القرآن رحمة لأهل الإسلام، ثم خصت من تلبس بوصف خاص منهم أو من غيرهم بحكم خاص يناسب وصفه ثم إن هذا الوصف لا يتعارض مع وصف القرآن بأنه شفاء.
وقد سبق وأن سُطر ما نصه: "وأما من نفى أن يكون ظالم المسلمين المخالف لآيات رب العالمين غير داخل في وعيد قوله (ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً) فهو من يحتاج نفيه إلى برهان يبين إرادة المشركين وحدهم من جملة الظالمين" وأما الاحتجاج على ذلك بذكر أن القرآن رحمة لأهل الإسلام قبلها فليس بمسلم، لكونه ليس لازماً، ولأن الكلام عن من تلبس بوصف خاص من أهل الإسلام فهل القرآن لمثل هذا فيما تلبس به رحمة أو هو عليه حجة تحكم بخسارته؟
وقد جاء في السنة أن أول من تسعر بهم النار أربع أو ثلاث وذكر منهم رجل قرأ القرآن ليقال قارئ، فمثل هذا لم يكن القرآن رحمة له بل ما زاده بظلمه إلاّ خسار.
¥