.. وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه، وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما، فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن، فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق، وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ (والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيبا) بالجر أنه قسم.
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام) إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به.
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة) إن (المقيمين) مجرور بواو القسم.
ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير، بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها، ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانية، فإن نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ، بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين = فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم، فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي، فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها، وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه، وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير، فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله.
ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[12 - 10 - 06, 12:53 ص]ـ
في بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم 3/ 877:
... فإن قلتَ: هذا خلاف مذهب سيبويه!
قلتُ: فهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين؟!
هذه طريقة الخفافيش، فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدا، وقليل ما هم
، ولا ريب أن أبا بشر [سيبويه] رحمه الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره، فهو المصلي في هذا المضمار، ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب، وإن لا حق إلا ما قاله وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به.
ـ[أبوصالح]ــــــــ[12 - 10 - 06, 02:28 ص]ـ
جزاك الله خيراً وأحسن الله إليك أخي عبدالرحمن.
ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[03 - 11 - 06, 08:41 م]ـ
بارك الله فيك أبا صالح ونفع بك
في بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم 3/ 1119:
فائدة
تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة فالألف إذا بدىء بها أولا كانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الرحوف، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني: الحلق واللسان والشفتين، وترتبت في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية.
فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا، فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها مدار كلام الأمم الأولين والآخرين مع تضمنها سرا عجيبا
وهو:
أن الألف البداية، واللام التوسط، والميم النهاية، فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة، فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه، فمشتملة على تخليق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم.
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن، فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي: الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق، والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف، وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف،
فمن ذلك ق والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول، ومراجعته مرارا، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق، والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وذكر القبل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة،
وسر آخر وهو: أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.
وإذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة ص من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: أجعل الآلهة لها واحد إلى أخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصم الملأ الأعلى في العلم، وهو: الدرجات والكفارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيب الفطن: هل يليق بهذه السورة غير ص؟ وسورة ق غير حرفها؟
وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم.
¥