تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كلها على هذه القاعدة الأخلاقية جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة.

وإن الوفاء بالمواثيق، يستوي في ذلك العقود الفردية أو المعاهدات والمواثيق الدولية، جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة.

وإن طلب العلم، سواء العلم بدين الله وأحكامه، أو العلم بسنن الله في الكون وخواص المادة، الذي يعين على استخلاص ما سخر الله للإنسان من طاقات السماوات والأرض، واستخدامها في عمارة الأرض، أو العلم بسنن الله في الحياة البشرية، التي يقوم على أساسها مجتمع صالح، أو العلم بالتاريخ البشري وما فيه من فترات الهدى والضلال، والنتائج المترتبة على كل منهما في واقع الحياة البشرية .. إن هذا العلم بمختلف فروعه واتجاهاته، جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة.

وإن إقامة فنون نظيفة، تلتفت إلى الجمال في الكون وفي الحياة البشرية وتعبر عنه في أداء جميل .. فنون لا تزين الفاحشة لأن الفاحشة ليست جمالا ولكنها هبوط. ولا تزين لحظة الضعف لأنها ليست جمالا إنما هي لحظة غفلة عن إدراك غاية الوجود الإنساني، أو لحظة تقصير في تحقيق ذلك الوجود. ولا تزين الانحراف والشذوذ لأنه ليس جمالا، وإنما هو نشاز نافر عن الجمال، ولا تزين عبادة الشيطان وعبادة الهوى والشهوات، لأنها ليست جمالا، وإنما هي حطة للإنسان الذي كرمه الله وفضله، وأراد له أن يتحرر من كل عبودية زائفة تزري بكيانه وتستذله .. إن إقامة مثل هذه الفنون جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة ().

وهذا كله، وما كان في مثل اتجاهه، هو الجانب المعنوي من الحضارة في المفهوم الإسلامي.

ثم إن هناك جانبا ماديا للحضارة الإنسانية يشمله المفهوم الإسلامي، وهو جانب ضخم كذلك.

فلئن كان الإنسان مخلوقا لعبادة الله، فإن عمارة الأرض هي جانب من مفهوم العبادة الواسع الشامل، الذي يحقق خلافة الإنسان في الأرض.

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ().

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) ().

وإذا اعتبرنا إقامة لا إله إلا الله في الأرض، أي إزالة الشرك، وإقامة التوحيد، وإقامة العدل الرباني والأخلاق الإيمانية جانبا من " العمارة "، لأن الأرض لا تعمر حقا إلا تحت المظلة الإيمانية التي تقيها من الانحراف والفساد والشر .. فإن الجانب الآخر هو العمارة المادية، باستخلاص طاقات السماوات والأرض وتسخيرها لخير الإنسان.

وهذا الجانب من العمارة يحتاج إلى كدح ذهني وعضلي لتحقيقه. يحتاج إلى معرفة خواص المادة والسنن الربانية التي يُجْري الله بها هذا الكون (والتي يسمونها في الجاهلية المعاصرة " قوانين الطبيعة " ()) ثم استخدام هذه المعرفة في المجال التطبيقي في الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة وسائر العلوم ..

وحين تعتبر الجاهلية المعاصرة هذا الجانب هو الحضارة، أو هو أهم ما في الحضارة، وأبرز منتجات الإنسان، فإن الإسلام يشترط شرطا واحدا لإدخال هذه الإنجازات في مدلول الحضارة، هو أن تكون كلها قائمة وفق المنهج الرباني، غير حائدة عن مقتضياته ..

إن استخلاص الطاقات الكونية - على ضرورته - ليس هو أهم ما يقوم به الإنسان على الأرض، ولو وصل به إلى القمر أو إلى المريخ. إنما الأهم من ذلك هو الغاية الكامنة وراءه، والأسلوب الذي يتم به، والمنهج الذي يحكمه.

وحين نقول: " الأهم " يفهم بعض الناس أننا نقول " البديل "! يعني أننا نضع القيم المعنوية بديلا من القيم المادية! و لا يقول بهذا عاقل! فالقيم المعنوية وحدها لا تملأ المعدات الخاوية إن لم يكن هناك خبز، ولا تسيّر السيارات والقطارات والطائرات إن لم يكن هناك وقود، ولا تصنع المدفع والدبابة والصاروخ إن لم تكن هناك مصانع وآلات.

تلك بديهية لا يحتاج الإنسان لذكرها .. ولكن هناك بديهية مقابلة لها لا تقل عنها بداهة، ولا تقل عنها أهمية، وإن جادلت فيها الجاهليات كثيرا، والجاهلية المعاصرة بصفة خاصة، هي أن الخبز والوقود والمصانع والآلات والسيارات والقطارات والصواريخ والدبابات والمدافع وحدها لا تصنع حضارة، ولا إنسانا متحضرا، ولا عمارة حقيقية للأرض، لأنها - وحدها - بدون " القيم " - تؤدي إلى الخراب!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير