وهذا الذي لا تصدقه الجاهلية المعاصرة أو لا تريد أن تصدقه رغم كل دلالة التاريخ، بل رغم النذر التي تحيط بها هي ذاتها وتكتنفها من كل جانب، وتشيع في صفوفها الخبال!
إن الإنسان - بكل الإنتاج المادي الذي ينتجه - يمكن أن يهبط أسفل سافلين إذا تخلّى عن القيم التي تجعل الإنسان إنسانا وترفعه عن مستوى الحيوان ..
والجاهلية المعاصرة هي عنوان ذلك ومصداقه ..
إن بين يديها أكبر قدر من " العلم " شهدته البشرية، وأكبر قدر من الإنتاج المادي في التاريخ. كما أن بين يديها من المخترعات والتيسيرات المادية ما لم يتجمع قط لأي جيل من أجيال البشرية ..
ضغطة زر واحدة صارت تصنع أشياء كثيرة ورائعة .. تدير آلة ضخمة. أو تنقل إليك أخبار العالم في الإذاعة المسموعة أو المرئية .. أو تنطلق بك في الفضاء إلى القمر أو المريخ.
نعم .. ولكن أين " الإنسان "؟!
ابحث عنه شاردا في المراقص والحانات، أو غارقا في شهوة جنس هابطة، أو مجرما يعتدي على الآمنين، أو نزيلا في أحد المصحات العقلية، أو مترددا على إحدى العيادات النفسية، أو مصابا بالحيرة والقلق والضياع تفسد أعصابه وتدمر سعادته ..
وليس القضية هي وجود " حالات " من ذلك كله. فإنه لا يوجد مجتمع في الأرض أيًّا كانت القيم التي يعيش عليها يخلو من حالات من تلك الأنواع. ولكن القضية هي النسب المخيفة التي ترتفع إليها تلك الحالات حتى تصبح ظواهر اجتماعية، ثم تصبح هي السمة البارزة في جاهلية القرن العشرين!
* * *
ذلك إذن هو المفهوم الإسلامي للحضارة .. حضارة " الإنسان " الخليفة في الأرض، المخلوق من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله. إنه ليس ذلك الحيوان الدارويني الذي يلفظ - بحكم تكوينه - كل القيم والأخلاق والمبادئ، ولا ذلك الإله الزائف الذي يتبع هواه، ويتجبر به في الأرض مستكبرا عن عبادة الله.
وعلى أساس هذا المفهوم قامت حضارة إسلامية متفردة في التاريخ.
قامت - عند مولدها - بأعظم قدر من القيم في تاريخ البشرية، وبأقل قدر من المظاهر المادية قامت عليه حضارة في التاريخ: مجموعة من الخيام، وبيوت الطين، وبساتين النخل، والخيل والإبل والأغنام، والسهام والسيوف!
وكانت - بصورتها تلك - إحدى معجزات التاريخ!
فهذا القدر من العمارة المادية للأرض لا يتصور إنسان أنه ينشئ حضارة، فضلا عن تلك الحضارة السامقة الفريدة. ولكن الفيض الهائل من القيم، الذي لا مثيل له في التاريخ، مطبقا في صورة واقع، لا في صورة شعارات أو مُثُلٍ معلقة في الفضاء، هو الذي عوض هذا النقص في العمارة المادية وغطاه، وأخرج " خير أمة أخرجت للناس ".
ومع أن هذه لم تكن الصورة النهائية لتلك الحضارة، إنما كانت هي " المولد " فحسب، إلا أن لنا وقفة عند هذه الصورة الفريدة التي شهدتها البشرية. وقفة تجيب على هذا التساؤل: أي جانبي الحضارة يمكن أن يغطي النقص في الجانب الآخر ويعوضه (حين يوجد نقص لسبب من الأسباب): أهو الجانب المعنوي - جانب القيم - أم الجانب الحسيّ المادي؟!
إن التجربة الإسلامية الرائعة - في مقابل الجاهلية المعاصرة - تجيب إجابة حاسمة على هذا التساؤل. فقد استطاع الفيض الهائل من القيم أن يعوض التخلف المادي، ويخرج خير جيل شهدته البشرية، بشهادة الله وشهادة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بينما لم يستطع الفيض الهائل من الإنتاج المادي والعلمي والتكنولوجي أن يعوض التخلف الروحي والمعنوي والأخلاقي، فأخرج شر جاهلية في التاريخ.
ولكن صورة " المولد " لم تكن هي الصورة النهائية، وما كان ينبغي لهاأن تكون.
لقد كان كامنا في هذا المولد كل عناصر النماء والقوة التي برزت فيما بعد.
فهذا المولد الفذ هو الذي دفع هذه الأمة تبحث عن " العلم " في كل مصادره، وتتعلم اللغة اليونانية واللاتينية، وكل لغة للعلم في ذلك العصر، لتترجم عنها، ثم تنشئ حركتها العلمية الذاتية فيما بعد، التي كان أروع ما ابتكرته المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه - فيما بعد - حركة أوربا العلمية المعاصرة، بما تعلمته في مدارس المسلمين.
¥