وهو الذي دفع هذه الأمة إلى التعمير المادي والتنظيمي في الأرض، بما تشهد به المدن الإسلامية وما حفلت به من صناعة وتجارة وحركة موارة. وما تشهد به نظم الإدارة والقضاء والحسبة ونظم التعليم ونظام الوقف والتنظيمات الحربية وديوان المظالم وديوان الإنشاء .. الخ .. الخ ..
وهو الذي دفع هذه الأمة أن تكشف مجاهل الأرض، وترسم الخرائط وتحدد المواقع، في حركة من أكبر حركات الكشف الجغرافي في التاريخ، والتي على أساسها قامت حركات الكشف الأوربي فيما بعد، بما فيها حركات فاسكوداجاما، وكولومبوس، وماجلان.
وهو الذي أنشأ التراث الفكري الهائل الذي تعجب له الأجيال المعاصرة: كيف تم بهذه الأصالة وهذه الغزارة وهذا العمق.
وهو الذي أنشأ فنونا في الأدب وفي العمارة وغيرها من ألوان الفنون ..
ولكن أهم ما تميزت به تلك الحضارة أنها قامت بكل ما قامت به من عمارة الأرض وهي تستظل بظل العقيدة الصحيحة، بل تنطلق من مطلقاتها، فتعمر ما تعمر في الأرض وهي تؤمن بالله واليوم الآخر، وتحقق مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر من قيم وأخلاق ومبادئ، دون تناقض في حسها بين هذا الأمر وذاك.
* * *
ولئن كانت هذه الحضارة قد أصيبت بالترف بعد ذلك فقد كان هذا بدء الاختلال في تاريخ هذه الأمة وبدء الانحسار ..
وتلك مشكلة من مشاكل الكيان البشري والحياة البشرية ليس هنا مجال الحديث عنها، وإن كنا نلم بها إلمامة سريعة في مجال الحديث عن " مفهوم " الحضارة وعمارة الأرض ..
إن الأمم تبدأ نشأتها متجمعة العزيمة مشحوذة الهمة متوفرة الجهد، لأنها تواجه تحديات جمة. ومن شأن التحديات أن تشحذ الهمة وتستنفر الجهد وتجمّع العزيمة. وتمضي بضعة أجيال حتى يتم " الإنجاز " بالصورة التي تحقق الوجود وتؤمّنه وتمكّن له، وتتغلب على التحديات .. وعندئذ يحدث نوع من الاطمئنان إلى ما تم إنجازه بالفعل، فيحدث معه نوع من التراخي، وفتور الهمة، والانصراف إلى الدعة والترف، وخاصة مع كثرة الموارد المالية التي تصاحب النجاح المادي في أغلب الأحيان ..
وحين يبدأ الترف يبدأ الانهيار ..
وتجيء الأخطار والأمة لاهية في ترفها، مشغولة بمتاع الأرض القريب، غير مقدّرة للخطر الذي يقترب منها، مخدوعة بقوتها، أو مستنيمة لهواتف الراحة والسلامة والإخلاد إلى الأرض، مبعدة عنها صوت النذير!
وتمضي السنة الربانية بتدمير المترفين:
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) ().
والسنن الربانية لا تحابي أحدا من الخلق، مهما زعموا لأنفسهم من مسوغات تسوغ المحاباة!
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ .. ) ()
ولقد جرت السنة الربانية على الأمة الإسلامية حين جنحت إلى الترف وأخلدت إلى الأرض، لأن سنن الله لا تتبدل ولا تتحول:
( .. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) ().
وكان الترف القتّال من جانب، مصحوبا - أو متبوعا - برد فعل خطر على الجانب الآخر، هو الانزواء والانصراف عن العمارة المادية للأرض، وعن اتخاذ أسباب القوة المادية، بحجة أن الدنيا ملعونة لأنها تصرف الناس عن الآخرة.
وبذلك كانت الحضارة تنهار من جانبيها في وقت واحد: الجانب الروحي والمعنوي - جانب القيم والأخلاق والمبادئ - يفسده الترف المنحلّ، والجانب المادي والحسيّ تفسده الصوفية المنصرفة عن تعمير الأرض ..
ولا الترف مقبول من الأمة المسلمة، ولا الطريق الصحيح لتقويمه هو الانزواء والانصراف عن عمارة الأرض، فقد كان كلاهما من أسباب الضعف الذي أغرى أعداء الأمة الإسلامية، فجاءوا من الشرق والغرب يحاولون القضاء على دين الله.
لقد حدثت موجة من الانحسار الشامل في كل ميدان.
ميدان الفكر والعلم. ميدان الأدب والفن. ميدان السياسة والاقتصاد والحرب. ميدان الإنتاج المادي الصناعي والزراعي. ميدان السلوك الخلقي .. وكذلك - وقبل كل شيء - في مجال العقيدة الصحيحة. في مفهوم العبادة ومفهوم لا إله إلا الله ().
¥