وليس من مسلكي الفكري قط في أي فترة من حياتي: التنقص من جهود أسلافنا، أو التقليل من قيمة تراثنا، فهذا أبعد شيء عن منهجي الفكري، ومسلكي الخلقي. فأنا أقدر كل القدر، وأكن كل الاحترام للعلماء في سائر عصورهم، وأتتلمذ عليهم، وأقتبس منهم، وأثني عليهم، وأدعو لهم بحسن المثوبة من الله تعالى، ولكنني لا أضفي عليهم العصمة فيما انتهوا إليه من آراء، فإنما هم بشر مجتهدون، يصيبون ويخطئون وإن كان الخطأ هو الأقل، والصواب هو الأكثر، ولهم الحجة، وبحسب المجتهد أن يكون خطؤه مغمورا في بحر صوابه.
وها أنا أقدم بحثي للقارئ الكريم الذي ينشد الحق، ويستفرغ الجهد في تحري الحقيقة والوصول إليها، ناظرا إلى ما قيل لا إلى من قال، متبنيا قول ابن مسعود رضي الله عنه: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، مؤكداً أن هدفي الوحيد هو خدمة الحقيقة العلمية، وإنصاف شريعة الإسلام في موقفها من المرأة وشخصيتها ومكانتها وحقوقها، التي ضاع الحق فيها بين الطغيان والإخسار، أو بين الإفراط والتفريط.
دية المرأة في الشريعة الإسلامية
وأورد فضيلته رأي الجمهور في دية المرأة قائلا:
اشتهر في تراثنا الفقهي: حكم شرعي، شاع بين المسلمين، وهو أن دية المرأة نصف دية الرجل، وقد أخذت به مذاهبهم المتبوعة كلها: المذاهب الأربعة الشهيرة، والمذهب الظاهري والمذهب الزيدي، والمذهب الجعفري، والمذهب الإباضي.
واستقر هذا الحكم طيلة القرون الماضية، حتى ظن الكثيرون: أن هذا من الأحكام القطعية، التي لا يجوز الاجتهاد فيها، وقد نقل بعض الأئمة: أنه مجمع عليه! فهل يجوز لنا أن نجدد اجتهادا في هذه المسألة: بأن ننظر فيها نظرة جديدة من خلال مصادر تشريعنا، وهي: القرآن والسنة والإجماع والقياس، والمصادر التبعية الأخرى: الاستصلاح وغيره، أو لا يجوز لنا مجرد التفكير في البحث والاجتهاد فيها من جديد؟
من المعروف: أن عندنا في الفقه الإسلامي دائرتين متمايزتين:
أولاهما: دائرة مفتوحة، يدخلها الاجتهاد والتجديد، وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف. وهي دائرة الأحكام الظنية، التي أُِخذ الحكم فيها من نصوص ظنية الثبوت، أو ظنية الدلالة، أو ظنيتهما معاً. أو استنبطت مما لا نص فيه عن طريق القياس والاستصلاح وغيرها.
وهذه الدائرة يدخل فيها معظم أحكام الشريعة. وهذا من فضل الله ورحمته بالأمة: أن جعل في مصادر شريعتها ـ وبالتالي في أحكامها ـ متسعا للاجتهاد واختلاف الآراء، ليتسع صدر الشريعة للمشدد والميسر، والآخذ بالظاهر، والناظر إلى المقصد، ولهذا لم يرد الله أن يثبت الأحكام بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، حتى لا يقطع الطريق على الاجتهادات المتجددة بتجدد الزمان والمكان والإنسان.
ومن هنا وجدت الأحكام المتعددة: والمذاهب المختلفة، والأقوال المتباينة، بين المذاهب بعضها وبعض، وداخل المذهب الواحد.
وربما ضاق بعض الناس بهذا الخلاف المنتشر، ولكنه لو أنصف وتدبر، لوجد في هذا: سعة ورحمه للأمة، فقد يصلح مذهب أو قول لزمن، ولا يصلح لغيره، ويصلح لبلد، ولا يصلح لآخر، ويصلح في حال ولا يصلح في أخرى. ولهذا ألف بعض العلماء كتابا سماه (رحمة الأمة باختلاف الأمة).
ودائرة مغلقة لا تقبل اجتهادا ولا تجديدا
والدائرة الأخرى: دائرة مغلقة، لا يدخلها الاجتهاد ولا التجديد، ولا تتغير أحكامها بتغير الزمان أو المكان أو الحال، لأنها تمثل الثوابت العقدية والفكرية والعملية للأمة، وهي التي تمسكها على الجادة؛ حتى لا تتحول إلى (أمم)، بل تبقى أمة واحدة في الظاهر والباطن.
وهذه الأحكام هي (القطعيات) أي التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهي قليلة جدا، ولكنها مهمة جدا، لأنها التي تحفظ على الأمة وحدتها العقلية والوجدانية والسلوكية.
ولهذا يجمع العلماء على أن من أنكر هذه الأحكام القطعية، أو استخف بها: يحكم عليه بالكفر، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وهو بهذا يكذب الله تعالى ويكذب رسوله، ومثل هذا لا يصدر إلا من كافر.
ففي أي الدائرتين نضع حكم هذه القضية التي نبحث فيها اليوم، وهي: أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؟ هذا ما سنلقي عليه الضوء في الصحائف التالية.
تشريع كان في الجاهلية وأقره الإسلام
وأبدأ هذا البحث بتمهيد يوضح مأخذ التشريع في الديات.
¥