كان تشريع الديات في القتل الخطأ، مما تعارف عليه العرب في الجاهلية، وكان منهج الإسلام مع ما كان عليه أهل الجاهلية يتمثل في واحدة من ثلاث:
1 - إما أن يقر ما كانوا عليه، إذا وجده صالحا، كما أقر نظام (المضاربة) أو (القراض) وهو اشتراك العمل والخبرة من جانب، ورأس المال من جانب آخر، للقيام بمشروع مشترك. وهذا يعتبر مما يسميه العلماء: السنة التقريرية.
ومن ذلك: أن يختار أصلح ما عندهم من أنواع المعاملات ويقرها، ويبطل غيرها مما لا يتفق وأهدافه ومبادئه، كما فعل في شأن (النكاح) فقد كان هناك أربعة أنواع، أبطل ثلاثة منها، وأبقى الرابع، وهو النكاح المعروف اليوم، والمتوارث من عهد النبوة.
2 - وإما أن يلغيه ويبطله، كما فعل في الأنكحة الثلاثة من نكاحات الجاهلية «الاستبضاع والشغار والبغاء» ومثل إكراه الفتيات (الإماء) على البغاء، ليتكسب سادتهن من وراء بغائهن.
3 - وإما أن يدخل عليه من التعديلات، بحذف بعض الأشياء، أو إضافة بعض الأشياء، حتى يستقيم العمل أو التصرف مع ما جاء به الإسلام.
كما في كثير من المعاملات والبيوع وغيرها. فقد كانوا يتعاملون بالسلم، ولكن بغير قيود تضبطه، فقال عليه الصلاة والسلام: «من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم».
وكانوا يتعاملون بمبدأ القصاص من 33»
وموضوع الديات من الموضوعات التي أقرها الإسلام من عمل الجاهلية، إلا أنه ضبطه بمجموعة من الأحكام تحدد نطاقه، وتحفظ حدوده.
وقد عُني القرآن الكريم نفسه بهذا الأمر، وجاءت فيه آية محكمة من كتاب الله: {وَمَا كَانَ لمؤمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} «النساء: 92» كما جاءت عدة أحاديث عن الدية ومقدارها، وعلى من تجب، ولمن تجب؟ إلى آخره.
ولابد لمن يريد تجديد الاجتهاد في هذه القضية (دية المرأة) أن ينظر فيها من خلال أدلة الأحكام أو مصادر التشريع كلها: القرآن والسنة والإجماع والقياس. والمصادر التبعية كلها: المصلحة المرسلة والاستحسان وغيرهما.
نظرة في المصدر الأول- القرآن
ومن نظر في القرآن وجد فيه الآية الكريمة التي ذكرناها من سورة النساء، وهي آية بينة محكمة واضحة الدلالة.
والمتأمل في هذه الآية القرآنية: يرى أنها لم تميز في الحكم بين رجل وامرأة في وجوب الدية والكفارة، والدية هي: حق أولياء الدم، والكفارة هي: حق الله.
إنما فرقت بين المؤمن الذي يعيش في دار الإسلام ومجتمع المسلمين، والمؤمن الذي يعيش في دار الأعداء المحاربين، وفي رحاب مجتمعهم، إذا قتله المسلمون أو أحدهم خطأ، فهنا تجب الكفارة على القاتل المخطئ، ولا تجب الدية، لأنها تدفع لأهله المحاربين للمسلمين، فيفتون بها في حرب المسلمين.
فلا فرق في نظر القرآن في العقوبة الدنيوية بين الرجل والمرأة في الدية، كما لا فرق بينهما في القصاص، فإن الذي يقتل المرأة يقتل بها قصاصا، سواء كان قاتلها رجلا أم امرأة.
حتى لو أن قاتلها كان زوجها، يقتل بها، وقد فعل ذلك سيدنا عمر رضي الله عنه، فقتل رجلا اعتدى على امرأته فقتلها.
نظرة في السنة النبوية
ولكن الخلاف في تمييز دية الرجل عن دية المرأة: جاء من ناحية النظر في السنة النبوية، وما ورد في ذلك من أحاديث استنبط منها جمهور العلماء ذلك الحكم.
ومن ثم وجب على الفقيه المعاصر الذي يريد تجديد اجتهاد في هذا الحكم الذي انتشر واشتهر العمل به قرونا طويلة، أن ينظر نظرة مستوعبة مستقلة في هذه الأحاديث: هل هي صحيحة الثبوت لا يطعن في سندها؟ وهل هي صريحة الدلالة لا احتمال في دلالتها على الحكم؟
وإذا نظرنا في الصحيحين (صحيحي البخاري ومسلم): لم نجد في أي منهما: أيّ حديث عن التمييز بين دية المرأة ودية الرجل: لا حديثا مرفوعا ولا موقوفا، ولا مسندا ولا معلقا من أحاديث البخاري، ولا من أحاديث الدرجة الأولى في مسلم (أحاديث الأصول) ولا من أحاديث الدرجة الثانية (أحاديث التوابع).
بل إذا نظرنا في كتب السنن الأربعة: سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، لم نجد فيها حديثا يميز في الدية بين المرأة والرجل.
¥