ودعوى مخالفة إجماع الصحابة غير مسلّمة، فلم يثبت أنهم أجمعوا، بل لم يثبت عن واحد منهم تنصيف الدية للمرأة بسند صحيح صريح. كما سنبين بعد.
وكذلك دعوى مخالفة سنة النبي (ص) في التفريق بين الرجل والمرأة: فقد بينا من قبل كلام أئمة الحديث المعتبرين: أنه لم تصح سنة عن رسول الله (ص) في التفريق بين الرجل والمرأة.
وأما ما قاله ابن قدامة عن حديث عمرو بن حزم، وأن فيه: «دية المرأة على النصف من دية الرجل .. » إلخ ... ، فنقول: قال الحافظ ابن حجر: في التلخيص حديث عمرو بن حزم: أن النبي [قال: «دية المرأة نصف دية الرجل» هذه الجملة ليست في حديث عمرو بن حزم الطويل، وإنما أخرجها البيهقي من حديث معاذ بن جبل، وقال: إسناده لا يثبت مثله. انتهى.
وهنا نقطة في حديث عمرو بن حزم، أحب أن أنبه عليها وهي: أن هذا الحديث الذي استدل به من استدل، إنما كتبه الرسول ـ إذا صح سنده ـ ليبين فيه الديات «أو العقول» وأنواعها ومقاديرها، وحكم كل منها، فإذا خلا من التمييز بين دية المرأة ودية الرجل، في مقام يجب فيه البيان؛ لأنه مكانه وأوانه: كان ذلك دليلاً واضحاً على عدم الفرق، فقد اتفق علماء الأصول على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولعل هذا هو ما دفع بعض المعارضين لتسوية المرأة بالرجل: أن يجعلوا جملة «دية المرأة نصف دية الرجل» من كتاب عمرو بن حزم، حتى لا يخلو الكتاب من هذا الحكم، وقد أنكر ذلك الحفاظ، وعلى رأسهم علامة المتأخرين، وخاتمة الحفاظ المتقنين: ابن حجر العسقلاني، الذي نفى فيما نقلنا عنه في «تلخيص الحبيبر»، وجود هذه الجملة في كتاب عمرو بن حزم، وأنها لا توجد إلا فيما رواه البيهقي عن معاذ بإسناد لا يثبت. وقوله هذا ينفي أن يوجد حديث مرفوع في تنصيف دية المرأة. وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير في «المسألة الثامنة»: مذهب أكثر الفقهاء: إن دية المرأة نصف دية الرجل. وقال الأصم وابن علية: ديتها مثل دية الرجل.
حجة الفقهاء: أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك. ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل، فكذلك في الدية.
وحجة الأصم وابن علية: قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية. والله أعلم. انتهى. وكأنه يؤيد هذا الرأي؛ لأنه لم يرد عليه ولم يتعقبه.
وقد عقب بعض الأخوة من القضاة القطريين ممن كتبوا في الموضوع في الصحف القطرية «القاضي سعيد البديوي المري» فركز على أن القول بالتسوية بين دية المرأة ودية الرجل معارض للإجماع.
ومما استند إليه أن الفقيهين اللذين اعتمد عليهما من نقضوا الإجماع، وهما: ابن علية والأصم: مجروحان عند العلماء، لا يعتمد عليهما ولا يعتد بخلافهما.
فابن علية المذكور ليس هو الأب إسماعيل بن علية الإمام العلامة الثبت كما وصفه الحافظ الذهبي وغيره، بل هو ابنه إبراهيم الذي جرحوه واتهموه.
والحق الذي يقتضيه التأمل والإنصاف أن المقصود في هذا السياق هو الأب، وليس الابن، لأن ابن علية حقيقة هو الأب، إسماعيل بن علية، نسب إلى أمه، كما هو معلوم، فإذا قيل: ابن علية انصرف الذهن إليه، لأنها الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا بقرينة. أما إبراهيم المذكور، فليس ابن علية على الحقيقة، وإنما هو ابن ابن علية.
وابن علية الأب هو الفقيه والمحدث، وأما الابن فلم يعرف بالفقه وإنما قيل عنه: المتكلم.
قال الذهبي في «الميزان» عن الأب: كان حافظا فقيها كبير القدر. ونقل المزي في «تهذيب الكمال» عن شعبة قال: ابن علية ريحانة الفقهاء.
على أن هنا مسألة مهمة في الاحتجاج بالإجماع، وهو أن الإجماع لابد أن يكون له مستند شرعي يعتمد عليه من كتاب بين أو سنة محكمة، أو قياس صحيح. أما ما خلا من ذلك كله، وكان مبنيا على مجرد الرأي فمثله قابل للنزاع والمعارضة.
فكيف إذا كان طاهر القرآن، وصحيح السنة، والقياس السليم، كلها تعارضه كما في قضية دية المرأة، على ما بيناه في موضعه.
سلمنا أن صاحب هذا القول هو ابن علية الابن، فهل يخرجه اعتزاله أو ابتداعه عن اعتباره في الإجماع، وكذلك الأصم شيخ المعتزلة؟
¥