فإن قيل: لماذا لا يحمل فعل ابن عمر مع البثرة على اليسير المعفو عنه، مع اشتراط الفقهاء لنجاسة الدم أن يفحش في نفسه كما في عمدة الطالب، وشرح منتهى الإرادات، وغيرهما فلعل ذلك لم يفحش في نفس ابن عمر رضي الله عنهما.
فيجاب عنه: بأن حمل تلك الأفعال من الصحابة على اليسير أو الضرورة ليس بمسلّم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُفتي بأن المُحتَجِم ليس عليه إلا غسل محاجمه، كما تقدّم. ذه فتوى من عالم من علماء الصحابة.فكيف تُحمل الفتوى على الضرورة؟؟
ولا ضرورة مع الحجامة، فإن الحجامة تكون في الرأس أو في الظهر أو في غيره من البدن، ومع ذلك كان يُفتي المحتجِم بأنه ليس عليه إلا غسل محاجمه.
والقول بأن هذه الآثار كان الدم فيها يسيراً فعفي عنه، فهذه دعوى في محل النزاع، والأصل ألا فرق بين قليل الدم وكثيره في النجاسة، كما لا فرق بين قليل الدم وكثيره في الحدث.
7 – أن أجزاء الآدمي طاهرة، فلو قُطِعت يده لكانت طاهرة مع أنها تحمل دماً، وربما يكون كثيراً، فإذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر ركناً في بُنيَة البدن طاهراً، فالدمّ الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.
8 - أن الشهيد يدفن بدمه، ولا يغسل، ولو كان نجساً لوجب غسله.
9 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزه المسجد من أن يجلس فيه الجريح والمستحاضة، وهما أصحاب جرح ينزف، وقد يتلوث المسجد، فلو كان نجساً لجاء الأمر بالنهي عن دخول المسجد.
فقد روى البخاري في صحيحه (463) عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات فيها.
وروى البخاري (309) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم فربما وضعت الطست تحتها من الدم، وزعم أن عائشة رأت ماء العصفر فقالت: كأن هذا شيء كانت فلانة تجده.
10 - جواز وطء المستحاضة ودمها ينزل، فلو كان الدم نجساً لحرم الجماع كما حرم حال الحيض في قوله تعالى: [قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض] فدم الاستحاضة ليس أذى، فلا يمنع من الجماع، ولا من التلطخ به.
11 - أن الآدمي ميتته طاهرة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إن المؤمن لا ينجس) فيكون دمه طاهراً كالسمك.
وعُلل ذلك بأن دم السمك طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إن دم الآدمي طاهر؛ لأن ميتته طاهرة.
فإن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أن الخارج من الإنسان من بول وغائط نجس، فليكن الدم نجساً.
فيُجاب بـ: أن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدم؛ لأن البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدم عليه، إذ الدم يُعفى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعفى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدهما بالآخر.
فإن قيل: ألا يُقاس على دم الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أن تحتّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تُصلي فيه؟
فالجواب: أن بينهما فرقاً:
أ – أن دم الحيض دم طبيعة وجبلة للنساء، قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم. فبيّن أنه مكتوب كتابة قدرية كونية، وقال صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة: إنه دم عرق، ففرّق بينهما.
ب – أن الحيض دم غليظ مُنتن له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصح قياس الدم الخارج من غير السبيلين على الدم الخارج من السبيلين، وهو دم الحيض والنفاس والاستحاضة.
فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قوي جداً؛ لأن النصّ والقياس يَدُلاّن عليه.
....
فإن قيل: إن فاطمة رضي الله عنها كانت تغسل الدم عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد، وهذا يدلّ على النجاسة.
أُجيب من وجهين:
أحدهما: أنه مُجرّد فعل، والفعل لا يدلّ على الوجوب.
الثاني: أنه يُحتمل أنه من أجل النظافة لإزالة الدم عن الوجه؛ لأن الإنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يُبطل الاستدلال.
¥