القول الثاني ومن قال به، ودليلهم والرد عليهنجاسة دم الآدمي، إلا أنهم يرون العفو عن يسيره على خلاف بينهم في مقدار اليسير.
فقيل: المرجع في تقدير القليل والكثير إلى العرف، فما اعتبره الناس كثيراً فهو كثير، وما عده الناس قليلاً فهو قليل، وهذا هو قول الحنابلة.
وقيل: القليل: ما دون الدرهم البغلي، والكثير ما زاد عنه، وهو قول في مذهب المالكية.
وقيل: كل شخص بحسبه، فما فحش بنفسه فهو كثير، والقليل: ما لم يفحش، فيكون التقدير راجعاً إلى الشخص نفسه.
وثمت أقوال أخرى في تقدير القليل والكثير لا دليل عليها.
وهو القول الذي اتفقت عليه المذاهب الأربعة.
ويحتاج هذا القول إلى إثبات الدليل على نجاسة دم الآدمي، وعلى العفو عن يسيره.
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول: الإجماع على نجاسة دم الآدمي. حكاه جماعة، منهم: الإمام أحمد، وابن عبد البر كما في التمهيد (230/ 22) والنووي في المجموع وغيرهم.
وكذا حكى الإجماع الإمام القرطبي في تفسيره، وأسهب السهارنفوري في تقرير ذلك في " بذل المجهود ".
قال أحمد لما سئل عن الدم كما في شرح العمدة لابن تيمية (1/ 105): الدم والقيح عندك سواء؟ قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه. اهـ
وقال ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع/ 19): واتفقوا على أن الكثير من أي دم كان حاشا دم السمك، وما لا يسيل دمه نجس. اهـ
قال النووي في المجموع (2/ 511): والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع. اهـ
وقال القرطبي كما في تفسيره (2/ 222): اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس. اهـ
وقال ابن حجر كما في فتح الباري (1/ 352): والدم نجس اتفاقاً. اهـ، وذكر نحوه ابن القيم في بدائع الفوائد.
الرد عليه نجاسة الدم ليست محل إجماع
ولا يثبت الإجماع، لورود الخلاف عن الصحابة – رضي الله عنهم – وعن التابعين، كما في الآثار السابقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لِمَ لَمْ يرد في غسل الدم حديث واحد؟
بل ورد خلاف ذلك، نقله النووي نفسه.
ولم أرَ دليلاً صحيحاً صريحا يدلّ على نجاسة الدمّ لمن قال بنجاسته.
قال الشوكاني – رحمه الله –:
وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقوّل على الله تعالى بما لم يَقُل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حُجة.اهـ.
وهذه الكلمة من الشوكاني قاعدة عظيمة يُعضّ عليها بالنواجذ.
فإن قيل: إذا حكى النووي وغيره الإجماع على مسألة وهم ممن يعتد بهم في العلم والفضل وتواطأ على ذلك أئمة فلماذا لا يكون صحيحا؟
فيجاب عن بـ: أنَّ النووي نفسه – رحمه الله – قد نقل الخلاف في المسألة في المجموع، وذكر بعض الأقوال في مذهبه هو والخلاف في نجاسة الدم من عدمه فقال:والصحيح عند الجمهور نجاسة الدم والفضلات وبه قطع العراقيون، وخالفهم القاضي حسين فقال: الأصح طهارة الجميع، والله أعلم.
وقد يُحمل نقل النووي -رحمه الله- للإجماع أنَّ هذا القول لم يختلف فيه الشافعية وقد أجمعوا عليه، على أنه ينتبه لشيء وهو أن قد يهمل بعض العلماء قول المخالف لأنه قد انعقد الإجماع قبله أو لا يعتد به في الخلاف كما قد صرح النووي رحمه الله بذلك في باب السواك شرح مسلم بإنه لا يعتد بخلاف الظاهرية.
وأحب أن أُذكّر أنه ليس كل من نقل الإجماع سُلّم له بذلك، ولذا قال الإمام أحمد – رحمه الله –: وما يُدريك أنهم أجمعوا، لعلهم اختلفوا.
الدليل الثاني قوله تعالى: [قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به].
الرد عليه
إن تحريم الأكل لا يستلزم النجاسة؛ لأن الآية نصت بقوله: [على طاعم يطعمه]، فليس كل حرام نجس، ولكن كل نجس حرام.
الدليل الثالث.حديث أسماء في الصحيحين قالت جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه). (البخاري 227)، (مسلم/ 291).
فهذا صريح في نجاسة دم الحيض، وتدخل سائر الدماء قياساً عليه.
الرد.
¥