وحجة المنع تعلق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض، فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي قد عرفه، ولايخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعدَّة وكتاب الفرائض، وكذلك الارتباط بين كتاب الجهاد ومايتعلق به، وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك عامة أبواب الفقه.
ومن فرق بين الفرائض وغيرها رأي انقطاع أحكام قسمة المواريث ومعرفة الفروض ومعرفة مستحقها عن كتاب البيوع والإجارات والرهون والنِّضَال وغيرها، وعدم تعلقاتها، وأيضاً فإن عامة أحكام المواريث قَطْعية، وهى منصوص عليها في الكتاب والسنة.
فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين، هل له أن يفتي بهما؟
قيل: نعم يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله، وجزي الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة خيراً، ومَنْعُ هذا من الإفتاء بما عَلِم خطَأ محض، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 216 ــ 217.
6 ــ ونقل السيوطي عن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني قوله (المُوَلّي في واقعة معينة يكفيه أن يعرف الحكم فيها بطريق الاجتهاد المعلَّق بتلك الواقعة، بناء على أن الاجتهاد يتجزأ وهو الأرجح) أهـ. ثم قال السيوطي (وكذا كل من ولاّه الإمام في جزئية معينة لايشترط فيه إلا الاجتهاد المتعلق بتلك الجزئية فقط، هذا مجموع كلام العلماء في ذلك) (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 88 و 96.
7 ــ الشوكاني رحمه الله، بعدما عرض أقوال من أجاز تجزئة الاجتهاد وهم الأكثر، ومن منع منه، قال كلاما قريبا من كلام ابن تيمية وهو إنه وإن جاز تجزئة الاجتهاد إلا أنه لابد لمن يجتهد في مسألة من أن يستوفي العلوم اللازمة للاجتهاد، فقال: (ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزي الاجتهاد فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لايجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي وعدم المانع وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الاحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب أو في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شئ من غلبة الظن بذلك لأنه لايزال يجوز الغير ماقد بلغ إليه علمه فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف وتتضح مجازفته بالبحث معه) (ارشاد الفحول) صـ 237. فالشوكاني ذهب إلى أبعد مما قاله ابن تيمية، فأجاز تجزئة الاجتهاد في الصورة ونفاه في الحقيقة إذ قصره على المجتهد المطلق، وهذا خلاف المقصود الذي ذهب إلى جوازه أكثر العلماء، والله أعلم.
فهذا ما يتعلق بحكم إفتاء المجتهد في باب أو في مسألة من مسائل الفقه.
المرتبة الرابعة: من تفقّه وقرأ كتاباً من كتب الفقه، هل يجوز له أن يفتي؟
قال ابن الصلاح: (إن قلت: من تفقه وقرأ كتاباً من كتب المذهب، أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر لم يتصف بصفة أحد من أصناف المفتين الذين سبق ذكرهم، فإذا لم يجد العامي في بلده غيره فرجوعه إليه أولى من أن يبقى في واقعته مرتبكا في حيرته.
قلت: إن كان في غير بلده مُفت ٍ يجدُ السبيل إلى استفتائه فعليه التوصل إلى استفتائه بحسب إمكانه، على أن بعض أصحابنا، ذكر أنه إذا شغرت البلدة عن المفتين فلا يحل المقام فيها، وإن تعذر ذلك عليه ذكر مسألته للقاصر المذكور، فإن وجد مسألتهُ بعينها مسطورة في كتاب ٍ موثوق ٍ بصحته، وهو ممن يقبل خبره، نقل له حكمها بنصه، وكان العامي في ذلك مقلدا ً لصاحب المذهب، وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم، والدليل يعضده، ثم لايعد هذا القاصر بأمثال ذلك من المفتين، ولامن الأصناف المذكورة المستعار لهم سمة المفتين.
وإن لم يجد مسألته بعينها ونصها مسطورة فلا سبيل له إلى القول فيها قياساً على ما عنده من المسطورة، وإن اعتقده من قبيل قياس لافارق الذي هو نحو قياس الأمة على العبد في سراية العُتق، لأن القاصر معرض لأن يعتقد ما ليس من هذا القبيل داخلاً في هذا القبيل، وإنما استتب إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق في حق من عرف مصادر الشرع ومواردهُ في أحكام العتق بحيث استبان له أنه لافرق في ذلك بين الذكر والأنثى، والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ104.
¥