لها، وشرطا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل ــ إلى قوله ــ قالوا: والنَّسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لايبلغ عشرة أحاديث البتة بل ولاشطرها، فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ، ويجوز عليه التناقض والاختلاف.
إلى أن قال ابن القيم: والصواب في هذه المسألة التفصيل:
فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بيِّنة لكل من سمعه لايحتمل غير المراد فله أن يعمل به، ويفتي به، ولايطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام، بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه.
وإن كانت دلالته خفية لايتبين المراد منها لم يجز له أن يعمل، ولايفتي بما يتوهمه مُرادا حتى يسأل ويطلب بيانَ الحديث ووجهه.
وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم، فهل له العمل والفتوى به؟ يخرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: الجواز، والمنع، والفرق بين العام والخاص فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص، والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض.
وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وإذا لم تكن ثمة أهلية قط ففرضه ماقال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العِيِّ السؤالُ». وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا وصعد فمن كلام إمامه، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ماكتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل مَنْ يعرِّفه معناه، كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 234 ــ 236.
فهذا مايتعلق بحكم إفتاء من عنده كتب الحديث أو بعضها. وننبه مرة أخرى هنا على أن مثل هذا إنما يجوز إفتاؤه للضرورة عند عدم العالم المجتهد أو عند تعذر الوصول إليه.
المرتبة السادسة: العامي إذا عرف حكم حادثة، هل يجوز له أن يفتي فيها؟
العامي إذا عرف حكم حادثة، فَلَه حالان: إما أن يعرف الحكم بالدليل، وإما أن يعرفه على وجه التقليد لقول مفت ٍ فيها دون معرفة الدليل.
أولا: العامي إذا عرف حكم حادثة بدليلها.
قال ابن الصلاح (وذكر الماوردي في كتابه «الحاوي»: في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجوز أن يفتي به، ويجوز تقليده فيه، لأنه قد وصل إلى العلم به، مثل وصول العالم إليه.
والثاني: يجوز ذلك إن كان دليلها من الكتاب والسنة.
والثالث: وهو أصحُها أنه لايجوز ذلك مطلقاً.) (أدب المفتي) صـ 103. فالمنع من الافتاء هو اختيار الماوردي وتابعه ابن الصلاح وكذلك النووي (المجموع) جـ 1 صـ 45.
ومال ابن القيم إلى ترجيح الوجه الثاني أي الجواز إن كان الدليل كتاباً أو سنة، فقال (إذا عرف العامي حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه؟ ففيه ثلاثة أوجه للشافعية وغيرهم، أحدها: الجواز، لأنه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها كما حصل للعالم، وإن تميز العالم بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له، فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله. والثاني: لا يجوز ذلك مطلقاً، لعدم أهليته للاستدلال، وعدم علمه بشروطه ومايعارضه، ولعله يظن دليلا ما ليس بدليل. والثالث: إن كان الدليل كتاباً أو سنة جاز له الإفتاء، وإن كان غيرهما لم يجز، لأن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، فيجب على المكلف أن يعمل بما وصل إليه من كتاب ربه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويجوز له أن يرشد غيره إليه ويدله عليه) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 198 ــ 199.
ثانيا: العامي إذا عرف حكم حادثة على سبيل التقليد.
أي بغير حجة ولا دليل وإنما يحفظ فتوى المفتي في الحادثة. ولا خلاف في أن هذا العامي ليس له أن يفتي، ويجوز أن يُخبر بالفتوى، قال الخطيب البغدادي (ومتى أفتى فقيه رجلاً من العامة بفتوى، فواسع للعامي أن يُخبر بها، فأما أن يفتي هو فلا) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 194.
¥