وعلى الحقيقة فإن هذا ليس مفتياً ولكنه ناقلٌ للعلم ومُبلغٌ له، ويجب على العامي أن يحتاط فلا ينسب الفتوى لنفسه بل ينبه على أنه ناقل للدليل أو لفتوى عالم، فيقول سمعت فيها من الشيخ فلان كذا وكذا، أو يقول قرأت فيها في كتاب كذا: كذا وكذا. وهذا جائز للضرورة عندما لايجد المستفتي أحداً يفتيه إلا هذا العامي. وقال الشاطبي إنه عند خلو الزمان عن المجتهدين يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين، انظر كتابه (الاعتصام) جـ 2 صـ 266، ط دار المعرفة 1402هـ. وهذا الكلام يجري على كل من نقل عن المجتهدين سواء كان هذا العامي المذكور هنا، أو كان المفتي المقلد المذكور في المرتبة الثانية، أو كان المتفقه من الكتب المذكور في المرتبة الرابعة.
المرتبة السابعة: إذا لم يجد المستفتي أحداً يفتيه ألبتّه.
أي لم يجد المستفتي أحداً ممن ذكرناهم في المراتب الست السابقة، لا في بلده ولا في غيره، ولا يمكنه التوصل لأحد يفتيه، فما الواجب في حقه؟.
ذهب فقهاء الشافعية كإمام الحرمين وابن الصلاح وتابعه النووي إلى أنه لاتكليف عليه، ويفعل مايشاء، كمن لم تبلغه الدعوة، ولامؤاخذة عليه، وكذلك قال الشاطبي من المالكية.
وذهب ابن القيم إلى أنه يتقي الله مااستطاع ويفعل مايغلب على ظنه أنه الحق والصواب، فإن للحق أمارات، فإن لم يتبين له شئ فالأمر كما قال فقهاء الشافعية أعلاه.
(فائدة) خُلُوْ الأرض من الفقهاء المجتهدين فمن دونهم من المفتين يمكن أن يقع في إحدى صورتين:
الصورة الأولى: الخُلُوّ المطلق، وذلك بانعدام وجود هؤلاء في جميع أقطار الأرض في نفس الوقت، وهذه الصورة لاتقع أبداً إلا قبيل قيام الساعة بعد ظهور علامات الساعة الكبرى، وعلى التحديد بعدما تهب الريح الطيبة التي تقبض أرواح جميع المؤمنين ثم يبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عبدالله بن عمرو، وهذا بعد نزول عيسى عليه السلام وموته بعد قتله للمسيح الدجال وبعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة إذ يتميزالمؤمن من الكافر، أما قبل هبوب هذه الريح فالعلم والعلماء باقون في الدنيا ولو على الندرة، وبهم تبقى حجة الله قائمة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لايضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) الحديث متفق عليه، و (أمر الله) هو الريح الطيبة المذكورة، وفي الرواية الأخرى (حتى تقوم الساعة) أي قرب قيامها.
الصورة الثانية: الخُلُوّ النسبي، وذلك بانعدام وجود المجتهدين والمفتين في بقعة من الأرض، مع وجودهم في بقعةأخرى، وهذه الصورة جائزة الحدوث في أي وقت، وهى المقصودة بالبحث في مسألتنا هذه، ومثالها ماسمعته من بعض من ذهبَ إلى بلاد أوربا الشرقية هذه الأيام (أول عام 1412هـ) وبعد تحررها من سيطرة روسيا الشيوعية، أن الحكم الشيوعي بهذه البلاد كبولندا كان قد اتبع سياسة أدت إلى انقراض الأئمة والفقهاء بهذه البلاد مع منعه سفر المواطنين إلى الخارج، فأصبح المسلمون بهذه البلاد يقرّون بالشهادتين مع جهلهم التام بتفاصيل أحكام الشريعة وعجزهم عن الاستفتاء، فهذه صورة للمسألة المفترضة هنا، وهذا من الجهل الذي يُعذر به صاحبه لعدم التمكن من العلم، حتى أن المسلمات كن يتزوجن الرجال النصارى، وكان المسلمون يصلون في يومٍ واحد ٍ من الشهر ركعتين عن كل يوم من الشهر المنصرم، يرون هذا الدين.
وقد افترض إمام الحرمين صورة مشابهة لهذا وهى صورة قوم ٍ منقطعين بجزيرة من الجزر، وستأتي في كلامه إن شاء الله.
ونذكر فيما يلي أقوال من أشرنا إليهم: إمام الحرمين، فابن الصلاح، والنووي مثله، فالشاطبي. ثم قول ابن القيم. ثم نختم المسألة بقول ابن تيمية فيها.
قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله ــ «في خُلُوِّ الزمان عن أصول الشريعة» ــ قال (ومضمون هذه المرتبة تقديرُ دروس أصول الشريعة، وقد ذهبت طوائف من علمائنا إلى أن ذلك لايقع، فإن أصول الشريعة تبقى محفوظة على ممر الدهور، إلى نفخة الصور، واستمسكوا بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
¥