استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة , منها: حديث غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة , وانتهار أبى بكر لهما , وقوله: مزمار الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا يدل على أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم , فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبى بكر إلى هذا الحد.
والمعول عليه هنا هو رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبى بكر رضى الله عنه وتعليله: أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة , وأنه بعث بحنيفية سمحة. وهو يدل على وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدى الآخرين , وإظهار جانب اليسر والسماحة فيه.
وقد روى البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة , ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو».
وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار , فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ‹ «أهديتم الفتاة»؟ قالوا: نعم. قال: «أرسلتم معها من يغنى»؟ قالت: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأنصار قوم فيهم غزل , فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيانا وحياكم؟!
وهذا الحديث يدل على رعاية أعراف الأقوام المختلفة , واتجاههم المزاجي , ولا يحكم المرء مزاجه هو في حياة كل الناس.
وروى النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبى مسعود الأنصاري في عرس , وإذا جوار يغنين. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا , وان شئت فاذهب , فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس.
وروى ابن حزم بسند «عن ابن سيرين: أن رجلاً قدم المدينة بجوار فأتى عبد الله ابن جعفر فعرضهن عليه , فأمر جارية منهن فغنت , وابن عمر يسمع , فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة , ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن , غبن بسبعمائة درهم! فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم , فإما أن تعطيها إياه , وإما أن ترد عليه بيعه , فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية , وهذا إسناد صحيح , لا تلك الملفقات الموضوعة.
واستدلوا بقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما , قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة , والله خير الرازقين).
فقرن اللهو بالتجارة - وهى حلال بيقين - , ولم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما - بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحا بها - من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم , وتركه قائما.
واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم: أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه وهم القوم يقتدى بهم فيهتدى. واستدلوا بما نقله غير واحد من الإجماع على إباحة السماع , كما سنذكره بعد.
وثانياً من حيث روح الإسلام وقواعده:
(أ) لا شئ في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس , وتستطيبها العقول , وتستحسنها الفطر , وتشتهيها الأسماع , فهو لذة الأذن , كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة , والمنظر الجميل لذة العين , والرائحة الذكية لذة الشم …. الخ , فهل الطيبات - أي المستلذات - حرام في الإسلام أم حلال؟
من المعروف أن الله تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على سوء ما صنعوا , كما قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) , فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم جعل عنوان رسالته في كتب الأولين أنه: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). فلم يبق في الإسلام شيء طيب - أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة - إلا أحله الله , رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم , قل أحل لكم الطيبات).
¥