ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئاً من الطيبات مما رزق الله , مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه , فإن التحليل والتحريم من حق الله وحده , وليس من شأن عباده, قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءآلله أذن لكم , أم على الله تفترون) , وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرم من المنكرات , كلاهما يجلب سخط الله وعذابه , ويردي صاحبه في هاوية الخسران المبين , والضلال البعيد , قال جل شأنه ينعى على من فعل ذلك من أهل الجاهلية: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله , قد ضلوا وما كانوا مهتدين).
(ب) ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة بشرية , حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه , وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم. بل نقول: إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة حتى قال الغزالي في الإحياء: «من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال , بعيد عن الروحانية , زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور وجميع البهائم , إذ الجمل - مع بلادة طبعه - يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة , ويستقصر - لقوة نشاطه في سماعه - المسافات الطويلة , وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فترى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها , وتصغي إليه ناصبة آذانها , وتسرع في سيرها , حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها».
وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها؟ كلا , إنما جاء لتهذيبها والسمو بها , وتوجيهها التوجيه القويم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها.
ومصداق ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما , فقال: «ما هذان اليومان»؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال عليه السلام: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي).
وقالت عائشة: «لقد رأيت النبي يسترني بردائه , وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد , حتى أكون أنا التي أسأمه - أي اللعب - فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو».
وإذا كان الغناء لهواً ولعبا فليس اللهو واللعب حراما , فالإنسان لا صبر له على الجد المطلق والصرامة الدائمة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة - حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده , وتغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حنظلة , ساعة وساعة» (رواه مسلم).
وقال علي بن أبى طالب: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة , فإن القلوب إذا أكرهت عميت.
وقال كرم الله وجهه: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان , فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لها على الحق.
وقد أجاب الإمام الغزالي ممن قال: إن الغناء لهو ولعب بقوله: «هو كذلك , ولكن الدنيا كلها لهو ولعب. . . وجميع المداعبة مع النساء لهو , إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد , كذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال , نقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
وأي لهو يزيد على لهو الحبشة والزنوج في لعبهم , فقد ثبت بالنص إباحته. على أني أقول: اللهو مروح القلب , ومخفف أعباء الفكر , والقلوب إذا أكرهت عميت , وترويحها إعانة لها على الجد , فالمواظب على التفقه مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة: لأن عطلة يوم تساعد على النشاط في سائر الأيام , والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يعطل في بعض الأوقات , ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات , فالعطلة معونة على العمل , واللهو معين على الجد , ولا يصبر على الجد المحض , والحق المر , إلا نفوس الأنبياء , عليهم السلام.
فاللهو دواء , القلب من داء الإعياء والملال , فينبغي أن يكون مباحاً , ولكن لا ينبغي أن يستكثر , كما لا يستكثر من الدواء. فإذن اللهو على هذه النية يصير قربه , هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها , بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة , فينبغي أن يستحب له ذلك , ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال , فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق , ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين , ومن أحاط بعلم علاج القلوب , ووجوه التلطف بها , وسياقاتها إلى الحق , علم قطعا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه»
¥