وكأني بالإمام ابن القيم تطوف بخياله تلك الأيام، ويتذكر ثبات شيخ الإسلام، ثم يأخذ القلم والمداد ليكتب معقباً بعد أن ذكر محنة الإمام أحمد:
"ولما لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت، وقضاتك، وولاتك، والفقهاء، والمفتون، كلهم على الباطل، وأحمد وحده هو على الحق!
فلم يتسع علمه لذلك، فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل.
فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة! وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم من المؤمنين، (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم". إنها عبارات رجل عاش التجربة، وشهد أحوال إمام العصر فيها فرحمة الله عليهما.
ثم بين ابن عبد الهادي أن تلك المحنة كان سببها تحريف كلام شيخ الإسلام، وأن سجنه لم يكن عن مراجعة ومقاضاة واستفسار، بل كان اعتقالاً تعسفياً استجابة لثورة العوام.
ثم ذكر نص الفتوى، وما فيها من تقرير بليغ واستدلال قوي محكم توهي قرون الأوعال محاولة إسقاطه بطعنه.
فلم يكن بد من التحريف!
قال ابن عد الهادي:
""ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب، كتبوه وبعثوا به إلى الديار المصرية، وكتب عليه قاضي الشافعية: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح. إلى أن قال وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها، هذا كلامه". انتهى كلام قاضي الشافعية.
قال ابن عبدالهادي: "فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام، والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها. والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية.
ولما وصل خط القاضي المذكور إلى الديار المصرية كثر الكلام، وعظمت الفتنة، وطلب القضاة بها، فاجتمعوا وتكلموا، وأشار بعضهم بحبس الشيخ، فرسم السلطان به، وجرى ما تقدم ذكره.
ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع" يعني من انتصار الله لوليه العلم الإمام.
قال حارث الهمام، والقاضي المذكور يظهر أنه يوسف بن إبراهيم بن جملة الشافعي الأشعري.
قال الصفدي:"وكان في أيام نيابته لقاضي القضاة جلال الدين بدمشق قد قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الزيارة، وسدّد سهمه إليه وأطلق زياره، وانتصب لهذا الأمر، وأوطأ قدميه على الجمر، ولم يُصلّ على جنازته، وتبرأ من حيازته".
فماذا كان بعد أن وطأ الجمر بوقوعه في الحبر البحر؟
قال الصفدي:
"ولم يزل على حاله الى أن وقعت له تلك الواقعة التي كان فيها غرضاً للسهام الرواشق، ووقته في وقتها كل غاسق، ودخل الى دار السعادة وهو قاضي القضاة وخرج منها وهو فاسق، واعتُقل في القلعة مدة، وحلّت به في هذه الواقعة كل شدة، ثم إنه أفرج عنه بعد مدة، وأعطي تدريس المسروريّة بعد أن كاد يموت غمّاً، كما جرى لسيبويه في المسألة الزنبورية.
ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن غاض ماء حياته، وفاض دمع باكياته".
ولا أطيل بذكر الواقعة بل أسأل الله أن يعفو عنه. فلا أخال شيخ الإسلام إلاّ قد عفى عنه، فتلك أخلاقه، وهذه سجاياه، وقد أشهد الإمام ابن القيم على تحليله من ظلمه.
وقد كان هذا السجن نعمة عليه قال ابن القيم: وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملئ هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة!
وقال لي مرة (المتحدث ابن القيم): المحبوس من حبسه قلبه عن ربه تبارك وتعالى، والمأسور من أسره هواه.
وما أجمل الخلوات، وقد كان الإمام يتطلبها منذ مبتدأ أمره.
قال ابن القيم: كان في بداية أمره يخرج أحياناً إلى الصحراء، يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوماً، فلما أصحر تنفس الصعداء ثم جعل يتمثل بقول الشاعر:
وأخرج من بين البيوت لعلني * أحدث عنك النفس بالسر خالياً
¥