((يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)).
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
1 - بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله.
2 - والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم؛ كالمجنون، أو العاجز عن العمل = فلا أمر عليه ولا نهي.
وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه = كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله؛ كمن انقطع عن العلم بجميع الدين، أو عجز عن جميعه؛ كالمجنون مثلاً، وهذه أوقات الفترات.
فإذا حصل من يقوم بالدين؛ من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما = كان بيانه لما جاء به الرسول)).
• وقال في موضع آخر منه (23/ 345 - 349) في ضمن كلامٍ له عن تكفير المعيِّن ونحوه، قال:
(( ... فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع.
فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التى يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.
فمن كان من المؤمنين مجتهدا فى طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه، كائناً ما كان، سواء كان فى المسائل النظرية أو العملية.
هذا الذى عليه أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ... ))، إلى أن قال رحمه الله: ((وقد ثبت فى الصحاح عن النبى صلى الله عليه وسلم: - حديث – ((الذى قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرونى فى اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذِّبنِّى الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البر بردِّ ما أخذ منه، والبحر بردِّ ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟، قال: خشيتك يا رب!؛ فغفر الله له)).
فهذا شك فى قدرة الله، وفي المعاد؛ بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه، إذا فعل ذلك، وغفر الله له!
وهذه المسائل مبسوطة فى غير هذا الموضع.
ولكن .. المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل؛ بين النوع والعين.
ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف فى ذلك ولم يفهموا غور قولهم ... )).
• وقال ابن القيِّم في طريق الهجرتين (ص/610 - 612) في سياق كلامه عن أطفال المشركين ومآلهم، وذكر قواعد نفيسة تهمُّنا في هذا الموضوع الذي نحن بصدد الكلام عليه، قال:
((1 - أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّبُ أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه؛ كما قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً))، وقال تعالى: ((رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل))، وقال تعالى: ((كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء))، وقال تعالى: ((فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير))، وقال تعالى: ((يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)).
وهذا كثير في القرآن؛ يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول، وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه.
وقال تعالى: ((وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين))، والظالم من عرف ماجاء به الرسول أو تمكَّن من معرفته بوجه، وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول، وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم!
2 - الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين:
• أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها، والعمل بها، وبموجبها.
• الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد.
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكُّن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
3 - والأصل الثالث: أن قيام الحجَّة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي يلا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما ... )) إلى آخر كلامه رحمه الله.
• وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في فتاواه (1/ 74): ((إنَّ الذين توقَّفوا في تكفير المعيَّن، في الأشياء التي يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم الحجة الرسالية؛ من حيث الثبوت والدلالة.
فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفَر؛ سواءٌ فهِمَ أو قال: لم أفهم، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد.
وأما ما عُلِمَ بالضرورة أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلَّم جاء به، وخالفه؛ فهذا يكفر بمجرَّد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريفٍ؛ سواءٌ في الأصول أو في الفروع، مالم يكن حديث عهد بالإسلام)).
••• يتبع - إنشاء الله -، ولكن اصبروا عليَّ قليلاً ...
¥