الوجه الأول: لو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لما سئل عن ضالة الإبل، "ما لك ولها؟ ".
الوجه الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بن كعب أخذه الصرة فدل على أنه جائز شرعا.
الوجه الثالث: الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم من الضياع، وهو قول عامة أهل العلم.
وقال البخاري: باب: هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها من لا يستحق؟
قال الحافظ: المعنى لا يدعها فتضيع ولا يدعها حتى يأخذها من لا يستحق، وأشار بهذه الترجمة على من كره اللقط. الفتح (5/ 379)
الوجه الرابع: لو أن أهل الأمانات اتفقوا على ترك اللقطة لم ترجع لقطة، ولا ضالة إلى صاحبها أبدا، لأن غير أهل الأمانات لا يعرفونها بل يستحلونها ويأكلونها.
ولأهل العلم تفاصيل في هذا الباب. قال اللخمي: وهو واجب، ومستحب، ومحرم، ومكروه، بحسب حال الملتقط و الوقت وأهله ومقدار اللقطة.
قال القرافي: ولم أر أحدا فصل وقسم أخذ اللقطة إلى الأحكام الخمسة إلا أصحابنا، بل كلهم أطلقوا.
انظر مثلا: البداية (2/ 238ـ 239) و تحفة اللبيب (286ـ 289) و مختصر المزني (135) و المجموع (16/ 136) والذخيرة (7/ 252 ـ 253)
وأما الجملة الثانية:
وهي أحكام اللقطة، فسنقتصر على ما يلزم المسلم إذا وجد شيئا معتبرا، وأما اليسير أو الحقير فله أن يتملكه، وفيه بعض التفصيل.
1 ـ من وجد لقطة وجب عليه أن يعرف جنسها وعددها ووزنها.
دليله حديث زيد بن خالد قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال:" اعرف عفاصها و وكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ".
ظاهر الأمر في قوله "اعرف" وجوب التعرف ولا صارف له، وفائدته قوية.
العفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره.
الوكاء: الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها.
قال الحافظ: والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة. الفتح (5/ 366)
فإن قيل: فما فائدة تعرفها؟
قلت: لذلك فوائد جمة.
منها: معرفة صدق المدعي من كذبه.
ومنها: كي لا تختلط بماله اختلاطا لا يمكن معه التمييز إذا جاء مالكها.
ومنها: أن يحفظ ذلك فإذا جاء صاحبها ووصفها دفعها إليه.
2ـ ثم يشهد ذا عدل أو ذوي عدل.
لحديث عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو ما الله يؤتيه من يشاء". رواه أبو داود بسند صحيح
قلت: أفاد الحديث زيادة وجوب الإشهاد بعدلين على التقاطها. فيجب الإشهاد على اللقطة وعلى أوصافها. انظر السبل (3/ 186)
فإن قيل فما فائدة الإشهاد؟
قلت: قال ابن العربي المالكي في العارضة (6/ 110): لئلا تضيع على صاحبها عند الورثة، أو لئلا يحمله الشيطان على إنكارها، فإذا أشهد قطع الوجهين. انظر الإعلام (3/ 188)
فإن قيل أيضا هل هناك كيفية في الإشهاد أم لا؟
قلت: ظاهر الحديث الإشهاد في الصفات، وقيل: يشهد على أصلها دون صفاتها، والأول أظهر وأصح.
انظر المجموع (16/ 144)
3ـ ثم يحفظها في حرز مثله، لأنها أمانة فيجب حفظها كالوديعة.
لحديث أبي السابق وفيه: " .. احفظ وعاءها وعددها وِوكاءها .. " رواه البخاري ومسلم
قال ابن عبد البر في التمهيد (12/ 448): كأنه قال: احفظها على صاحبها، واعرف من العلامات ما تستحق به إذا طلبت. انظر القبس (3/ 944)
4 ـ ولا يكتم ولا يغيب.
لحديث عياض السابق وفيه: "ثم لا يكتم، ولا يغيب .. "
قوله" لا يكتم": أي لا يخفيه.
وقوله: " لا يغيب": أي لا يجعله غائبا بأن يرسله إلى مكان آخر.
5ـ بل يعرفها حولا قمريا كاملا.
فعن زيد بن خالد الجهني أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقطة. فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" رواه البخاري ومسلم
الكلام عن التعريف في ستة مواضع، أذكر منها ما يفي بالغرض.
الأول: في حكم التعريف، فظاهر الأمر يفيد الوجوب ولا صارف له، ويزيده دلالة ما رواه زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرفها" رواه مسلم
فوصفه بالضلال إذا لم يعرف بها.
الثاني: في زمانه، فالأليق أن يكون في النهار دون الليل لأن النهار يجمع الناس.
الثالث: في مكانه، وذلك في المكان الذي التقطت منه، وهو الأولى لأن من أضاع شيئا طلبه في الموضع الذي ضاع فيه. أو في مظان اجتماع الناس من الأسواق، وأبواب المساجد، والمجامع الحافلة.
وليحذر إنشادها في المساجد، وإنما على أبوابها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل له: لا راداها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا. رواه ابن خزيمة بسند صحيح
وأما أبواب المساجد، فقد ثبت أمر عمر بذلك كما في الموطأ (660) بسند صحيح
الرابع: في كيفية التعريف، وذلك بإنشادها بعبارات لا يذكر فيها شيئا من الصفات كي لا يدعيها من لا يعلمها. كأن يقول: من ضاع له مال فليخبر بعلامته، أو نحو ذلك. المحلى (7/ 110) والعارضة (6/ 112)
6 ـ فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء.
أحاديث الباب كثيرة، منها حديث زيد بن خالد السابق وفيه "فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها".
قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أن صاحبها إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها. فتح البر (12/ 448)
قلت: الحديث صريح في جواز التملك بعد سنة، فله أن يلحق هذه اللقطة بماله وينفقها على نفسه. وكما قال ابن العربي المالكي: ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر. العارضة (6/ 111)
فإن قيل بم ترد اللقطة إلى صاحبها؟
قلت: من أحال على الوصف الظاهري دفعت إليه لا سيما وليس لأحد عليه يد تدعيه، ومن أحال على الوصف الباطني كالعدد فهو الغاية في البيان فوجب الدفع إليه من طريق الأولى. وهنا مباحث مهمة خاصة في الفرق بين الوصف والبينة، أسأل الله تعالى أن ييسر إخراج الأصل، وأن يفي هذا المختصر بإحياء هذه السنة، والله أجل وأعلم، والحمد لله رب العالمين.