وقد تقدم قول الإمام أحمد (لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء) ولكن ثبت القنوت عن الصحابة () رضي الله عنهم على خلاف بينهم، هل يقنت في السنة كلها أم لا، والحق فيه أنه مستحب في بعض الأحيان، والأولى أن يكون الترك أكثر من الفعل، وما يفعله بعض الأئمة من المثابرة عليه فغلط مخالف للسنة. وإذا ثبت ضعف لفظة القنوت في خير الحسن. فاعلم أن القنوت يشرع بأي دعاء ليس فيه اعتداء ولا سجع مكلف وتلحين مطرب ونحو ذلك مما اخترعه المتأخرون مما لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا جرى به عمل للأئمة. غاية ما في الأمر اجتهادات فردية ممن لا يملك حق الاجتهاد، أدّت إلى ترك المشروع وتتبع الآراء وتحكيم الأهواء، وقد جرّ هذا الأمر المغلوط إلى ملحوظات أخرى من إطالة الدعاء والمبالغة فيه بما يشق على المأمومين ويجعلهم في ملل وتألم وبغض للحال.
هذا والأفضل في دعاء القنوت أن يبدأ الداعي أولاً بحمد الله تعالى والثناء عليه ويُثَنّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو فإن هذا أقرب إلى الإجابة من دعاء مجرد من الحمد والثناء (). لما روى الترمذي () في جامعه وأبو داود () وغيرهما عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا ثم دعاه فقال له ولغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد بما شاء) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
وحديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لسبطه الحسن بن علي أن يقول في قنوت الوتر (اللهم اهدني فيمن هديت) صحيح بدون ذكر القنوت ... وقد تقدم بيان ذلك، وحينئذٍ لا يصح الاستدلال به على استفتاح دعاء القنوت بغير الحمد، قال ابن القيم رحمه الله (المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسأل حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد) () وقد دل هذا الحديث على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب إجابة الدعاء ومن هنا كان أبيُ بن كعب يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته بالصحابة رواه ابن خزيمة في صحيحه (2/ 155/156) وقال الإمام إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص/86): حدثنا محمد بن المثنى قال ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عبد الله بن الحارث أن أبا حليمة معاذاً كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت). وهذا سند صحيح إلى أبي حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري وهو مختلف في صحبته.وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وهو ممن أقامه عمر بن الخطاب يصلى التراويح بالناس في شهر رمضان ().
*رفع اليدين في القنوت:
وأما رفع اليدين في القنوت فقد منعه الإمام الأوزعي وجماعة من أهل العلم (). حتى قال الإمام الزهري (لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان) رواه عبد الرزاق (3/ 122) بسند صحيح.
وذهبت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور إلى استحبابه لأن الأصل في الدعاء رفع اليدين. وقد قاسه جماعة من الفقهاء وأهل الحديث على قنوت النوازل. فقد سئل الإمام أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر؟ فقال: القنوت بعد الركوع. ويرفع يديه. وذلك على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة ().
وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل، يرفع يديه في القنوت؟ قال: نعم يعجبني. قال أبو داود: فرأيت أحمد يرفع يديه في القنوت (). وذكر البخاري في جزء رفع اليدين (). من طريق أبي عثمان قال: كان عمر يرفع يديه في القنوت.
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة).
قلت: هذا الأثر في إسناده ليث بن أبي سلِم، ضعيف الحديث وقد قال البخاري رحمه الله بعد ذكر أثر ابن مسعود: (وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً .... ).
وقال البيهقي رحمه الله: (إن عدداً من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم) ().
* وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء فلم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عن الصحابة رضي الله عنهم لا في القنوت ولا في غيره، لا داخل الصلاة و لا خارجها. وقد اعتاد بعض العامة فعل ذلك وهذا غلط. واعتاد آخرون رفع الأيدي عقب النوافل ومسح الوجه بها بدون دعاء وهذا أقبح من الأول والسّنة ترك المسح مطلقاً في الصلاة وغيرها. قال الإمام أبو داود في مسائله (): سمعت أحمد سئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ، قال: لم أسمع به. وقال مرة: لم أسمع فيه بشيء. قال: ورأيت أحمد لا يفعله. وسئل مالك رحمه الله عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء؟ فأنكر ذلك وقال: ما علمت) ().
وقال الحافظ البيهقي رحمه الله: (لست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم ()، خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة. وبالله التوفيق) ().
تمت الرسالة
على يد الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
في مدينة بريدة 2/ 2/1418هـ
والحمد لله رب العلمين
(جزءمن رسالةاحكام قيام الليل)