ومما يدعم هذا التوجيه لقول الإمام ويقويه ما رواه ابن نافع عن الإمام مالك انه قال ((المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح يقين لا شك فيه إلا أني كنت آخذ نفسي بالطهور فلا أرى من مسح مقصراً فيما يجب عليه ورأى المسح قوياً والصلاة تامة)) ([15]).
وكذلك ما رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون و مطرفاً أنهما قالا: ((لم يختلف فيه أهل السنة وما علمنا مالكاً ولا غيره من علمائنا أنكر ذلك في الحضر والسفر)) ([16]).
هذا كله يؤكد بطلان الرواية الأولى وشذوذها! فلهذا نجد المالكية لا يعرجون عليها ولا يذكرونها في كتبهم إلا نادراً.
موقف الإمام مالك من المسح على الخفين في الحضر:
وردت عن الإمام مالك في مسح الخفين للمقيم روايتان إحداهما المنع من المسح، والثانية إجازة المسح.
فالرواية الأولى رواها ابن القاسم عن الإمام مالك، جاء في المدونة: ((قال [أي ابن القاسم]: وقال مالك: لا يمسح المقيم على خفيه ... )) ([17]).
ووجود هذه الرواية في المدونة، وكونها من رواية ابن القاسم يجعلها في أعلى درجات القوة والقبول عند المالكية! فلهذا نصوا عليها في كتبهم ([18])، ونصروها بالأدلة العقلية.
ومن استدلالهم لهذا القول هو أن المسح أبيح لضرورة السفر الذي غالباً ما يكون مصحوباً بالمشقة، وكذلك فإن السفر يفارق الحضر بكثرة الرخص التي خص بها، فتجد الشارع قد خصه بالقصر، والفطر بالنسبة للصائم، والتنفل على الدابة وما شابه ذلك ([19]).
ولكن هذا الدليل العقلي يتهاوى أمام الأحاديث الصحيحة التي تثبت المسح في الحضر؛ فلهذا نجد الحافظ ابن عبد البر يعلق على هذا الاستدلال بقوله: (( .... وهذا ليس بشيء؛ لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر)) ([20]).
ولماذا كان لا يعتد بهذا القياس؟؛ لأنه قياس في مقابلة النص، ومن ثم فهو فاسد الاعتبار.
ومن جملة هذه الأحاديث حديث علي بن أبي طالب t الذي قال فيه: ((جعل رسول الله r ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم)) ([21])، وحديث حذيفة الذي قال فيه: ((كنت مع النبي r فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه)) ([22])، وإضافة السباطة ([23]) إلى قوم تدل على أن رسول الله r كان في الحضر، ومما يؤكد هذا ما رواه ابن عبد البر بسنده إلى حذيفة أنه قال: ((كنت أمشي مع النبي r بالمدينة فانتهى إلى سابطة قوم .... )) ([24]).
هذه الأحاديث وغيرها تقوي ما ذهب إليه الإمام مالك في الرواية الثانية من إباحة المسح في الحضر وأكبر شاهد على هذه الرواية موطؤه الذي عقد فيه باباً خاصاً للمسح على الخفين، وأورد فيه عدة أحاديث تدل على المسح في الحضر منها: ((أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص، وهو أميرها فرآه عبد الله ابن عمر يمسح على الخفين، فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك إذا قدمت عليه .... فسأله عبد الله، فقال عمر: إذا أدخلت رجليك في الخفين، وهما طاهرتان، فامسح عليهما)) ([25]).
فإنكار ابن عمر على سعد يدل على أن المسح كان في الحضر، وهذا ما توضحه رواية ابن جريج عن نافع الذي جاء فيها: (( .... وهو مقيم بالكوفة .... )) ([26]).
فوجود هذا الحديث وغيره في الموطأ يزيد الرواية ثقلاً في ميزان الترجيح عند علماء المذهب، ويصيرها راجحة ومقدَّمة على غيرها، وهذا ما جعل القاضي أبو الوليد الباجي يجزم بأن هذا القول هو الذي رجع إليه الإمام مالك ([27]).
الخاتمة
مما سبق يتبين أن الإمام مالكاً استقر رأيه في مسألة المسح على الخفين على إجازة المسح في الحضر والسفر ([28])، وأن الروايات التي وردت عن الإمام مالك تمنع المسح على الخفين مطلقاً أو تمنعه في الحضر أو ما ظاهرها إنكار المسح يردها موطؤه الذي نقله الجم الغفير من الرواة، والذي عكف عليه ينقحه ويدرّسه إلى أن فارق هذه الحياة.
¥