فهذه المسألة من المسائل الخلافية الشائكة التي اختلف بها السلف و يختلف بها فقهاء العصر. و قد رأينا تبسيط هذه المسألة و توضيح المسألة من أبعادها و تبيين أدلة كل طرف و مناقشتها. و من ثم الوصول إلى حكم وسط راجح في هذه المسألة.
ترغيب الإسلام على الزواج و الإنجاب
لقد حض الإسلام على الزواج و الإنجاب و ذم الرهبانية و التبتل. و الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، فمنها حديث أنس بلفظ «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة» أخرجه ابن حبان، و أخرج البيهقي من حديث أبي إمامة «تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى»، و في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني «إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة»، وعن ابن عباس رفعه «لا صرورة في الإسلام» أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. و هذه الأحاديث لا تخلوا من ضعف لكن تشهد لها بعض الأحاديث الأخرى مثل ما أخرج البخاري «اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء».
على أن هذه الأحاديث كلها تؤخذ على الإستحباب و ليس من هذه الأحاديث حديث واحد يحرم تحديد النسل. فالتحريم لا بد له من دليل واضح و هو منتف في هذه الحالة. لذلك قال الغزالي في الإحياء: «من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح».
الفرق بين منع الحمل وتنظيم النسل
(أ) منع الحمل: هو استعمال الوسائل التي تسبب العقم الدائم عند الرجل أو المرأة كاستئصال الرحم أو الإستخصاء. و هذا النوع منهي عنه. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري «ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقا».
(ب) تنظيم و تحديد النسل: ويكون في استعمال وسائل معروفة لا تؤدّي إلى إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل، بل يراد بذلك الوقوف عن الإنجاب عند الوصول إلى عدد معين من الذرية لأسبابٍ شرعية القصد، منها مراعاة حال الأسرة وشؤونها من صحة أو قدرة على التربية، أو لإتمام مُدة الرضاعة وهي سنتان كما بينها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. و يكون هذا التوقّف عن الإنجاب باستعمال وسائل يُظن أنها تمنع من الحمل يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل كالعزل، وهو قذف ماء الرجل خارج الرحم، وكتناول العقاقير ووضع اللبوس -وهو اللولب- في الفرج وترك الجماع في وقت إخصاب بويضة المرأة ووضع العازل المطاطي ونحو ذلك.
الأسباب التي تدعو لتحديد النسل
أولاً: من المعلوم عند الجميع أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكن الناس وللزراعة والإنتاج ممّا يحتاجه الناس محدود. و نجد كثيرا من بلاد المسلمين -بنغلادش مثلاً- قد استنفذت بها كل الموارد الطبيعية و الأراضي القابلة للزراعة مع زيادة كبيرة للسكان أدت لفقر مدقع و مجاعة دائمة و تخلف شامل في كل النواحي. و زيادة السكان لا تزيد البلاد إلا فقراً.
و هذه الهند و الصين بدأتا كلاهما تجربة النهوض في نفس الوقت. و على الرغم من كون الهند أكثر ديمقراطية و انفتاحاً فإن عدم تحديد النمو السكاني جعل الهند تبقى متخلفة من المنظور العام بعكس الصين التي حققت بسبب تمكنها من السيطرة على النمو السكاني أعلى نمو اقتصادي في العالم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ التَّكَاثُرَ. وَمَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْخَطَأَ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْعَمْدَ» (أخرجه أحمد). و قال أيضاً: «ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغني غنى النفس. والله ما أخشى عليكم الفقر ولكن أخشى عليكم التكاثر. ولكن أخشى عليكم العمد» (أخرجه أحمد).
ثانياً: أن الفطرة وضعت حداً مناسباً لتنظيم النسل والمنع من تضخيمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان. و كمثال مصغر على ذلك قبيلة تعيش حول بئر ماء فلما تضاعف عدد أفراد القبيلة جف البئر و لم يعد يكف فمات الكثير من العطش مما حدد نمو القبيلة.
¥