وقام القوم فتحزموا، ولبسوا ثيابهم، وخرجوا، وبقي الغلام وأستاذه.
فقالا لي: يا فتى، قد علمت أننا قد خلصنا دمك، فلا تكافئنا بقبيح، وهوذا نخرج، ولا نستحسن أن نكتفك، فاحذر أن تصيح.
فأخذت أقبل أيديهما وأرجلهما، وأقول: أنتما أحييتماني بعد الله تعالى، فكيف أكافئكما بالقبيح ?
فقالا: قم معنا، فقمت، ففتشنا الدار، حتى علمنا أنه لم يختبئ فيها أحد يريد قتلي.
ثم قالا لي: قد أمنت، فإذا خرجنا فاستوثق من الباب ونم وراءه، فليس يكون إلا خيراً، وخرجا.
فاستوثقت من غلق الباب، ثم جزعت جزعاً عظيماً، ولم أشك أنه يخرج علي من تحت الأرض منهم من يقتلني، وزاد علي الفزع، فأقبلت أمشي في الدار، وأدعو، وأسبح، إلى أن كدت أتلف إعياءً.
وأنست باستمرار الوقت على السلامة، وحملتني عيني، فنمت، فلم أحس إلا بالشمس وحرارتها، على وجهي، من باب البيت.
فقمت، وخرجت أمشي وأنا عريان بسراويلي، إلى أن حصلت في الموضع الذي كنت أسكنه.
وما حدثت أحداً بهذا الحديث مدة، لبقية الفزع الذي داخلني منهم في قلبي.
ثم بعد انقضاء سنة، أو قريب منها، كنت يوماً عند صاحب الشرطة بنصيبين، لصداقة كانت بينه وبين أبي، فما لبث أن حضر من عرفه عثور الطوف على جماعة من اللصوص، بقرية سماها، من قرى نصيبين، وقبضه على سبعة نفر منهم، وفوت الباقين، فأمر بإحضارهم.
فوقع بصري منهم على ذلك الغلام الذي أجارني ذلك اليوم، وعلى أستاذه، ثم على مقبل.
فحين رأيتهم أخذتني رعدة تبينت في، وأخذ مقبل- من بينهم- مثل ما أخذني.
فقال لي صاحب الشرطة: ما لك ?
فقلت: إن حديثي طويل، ولعل الله تعالى، أراد بحضوري هذا المجلس، سعادة نفر، وشقاوة نفر.
فقال: هات.
فأقتصصت عليه قصتي مع القوم إلى آخرها، فتعجب، وقال: هلا شرحتها لي فيما قبل، حتى كنت أطلبهم، وأنتصف لك منهم.
فقلت: إن الفزع الذي كان في قلبي منهم، لم يبسط لساني به.
فقال: من الذي كان معك من هؤلاء ?
فقلت: هذا الغلام، وأستاذه، وواحد من الباقين، فأمر بحل كتافهم، وتمييزهم من بين أصحابهم.
ودعا بمقبل، فقال له: ما حملك على ما فعلت بابن مولاك ?
فقال: سوء الأصل، وخبث العرق.
فقال: لا جرم تقابل بفعلك، وأمر به فضرب عنقه، وأعناق أصحابه الباقين.
ودعا بالغلام، وأستاذه، وصاحبهما، وقال لهما: لقد أحسنتما في فعلكما ودفعكما عن هذا الفتى، فالله يجزيكما عن فعلكما الخير، فتوبا إلى الله من فعلكما، وانصرفا في صحبة الله، مع صاحبكما، ولا تعودا إلى ما أنتما عليه من التلصص، فقد مننت عليكما لحسن صنيعكما بهذا الفتى، فإن ظفرت بكما ثانياً، ألحقتكما بأصحابكما.
فتابا وصاحبهما، وشكروا له، ودعوا، وانصرفوا.
وشكرته أنا أيضاً على ما فعل، وحمدت الله على توفيقي لقضاء حق من أجارني، والانتقام ممن ظلمني.
ثم صار ذلك الغلام وأستاذه من أصدقائي، وكانا يختلفان إلي، ويقولان: قد أقبلنا على حرفنا في السوق، وتركنا التلصص.
الفرج بعد الشدة
ـ[ابو الحارث الشامي]ــــــــ[15 - 05 - 07, 08:20 م]ـ
مواضيع رائعة
وكلام جميل
اضحك الله سنك
وجزاك الله كل الخير
ـ[هشام الهاشمي]ــــــــ[20 - 05 - 07, 02:07 م]ـ
أبو الحارث - الشامي
وجزاك .. ووقك ربي حر الجحيم
يَحْيَى بْنُ أَبِي طَيّ حميد بن ظَافِرِ بْنِ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ بن علي بن مُحَمَّدِ بن الحَسَن بن صَالِح بن سَعِيْدِ بن أَبِي الخَيْرِ الطّائي أبو الفَضْل البُخَاري الحَلَبِيّ:
ولد بها سنة خمس وسبعين، وقرأ القرآن، ثم جرد رواية أبي عمر، وأكثر رواية نافع، وتعانى صنعة التجارة مع والده، وكان مقدماً فيها، ثم نَظَمَ الشِّعْرَ ومدح الظاهر ابن السُّلطان صلاح الدِّين، واستقر في شعرائه، وأخذ في غضون ذلك الفقه عن ابن جَعْفَرٍ محمد بن علي بن شهراشوب المازرائي، وكان بارعاً في الفقه على مذهب الإمامية، وله مشاركة في الأُصُولِ والقِرَاءَاتِ، وله تصانيف كما تقدم ذلك في ترجمته، وأخذ عن غيره، ثم ترك صناعته، ولزم تعليم الأطفال في سنة سبع وتسعين، إلى ما بعد الستمائة، وتشاغل بالتصنيف، فاتخذ رزقه منه.
قال يَاقُوتٌ: كان يدعي العلم بالأدب والفقه والأصول على مذهب الإمامية، وجعل التأليف حَانُوتَهُ، ومنه قوته ومكسبه، ولكنه كان يقطع الطريق على تصانيف الناس، بأخذ الكتاب الذي أتعب جامعه خاطره فيه فينسخه كما هو إلا أنه يقدم فيه ويؤخر، ويزيد وينقص، ويخترع له اسماً غريباً، ويكتبه كتابة فائقة لمن يشبه عليه، ورزق من ذلك حظاً، وذكر من تصانيفه «معادن الذهب في تاريخ حلب» كبير و «شرح بهجة البلاغة» في ست مجلدات و «فضائل الأئمة» في أربع مجلدات و «خلاصة الخلاص في آداب الخواص» في عشر مجلدات و «الحاوي في رجال الإمامية» و «سلك النظام في أخبار الشام» إلى غير ذلك.
قلتُ: ووقفت على تصانيفه، وهو كثير الأوهام، والسقط، والتصحيف وكان سبب ذلك ما ذكره ياقوت من أخذه من الصحف.
قال ياقوت: لقيته سنة تسع عشرة بـ «حلب». قلت: وتأخرت وفاته بعد ذلك).
لسان الميزان
¥