تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

النبي e نازلاً مع علمنا بوقت مكثه في ذلك المكان؛ وذلك لأنه لن يخرج إلا في اليوم الثامن؛ فمشروعية القصر مستيقنة لمن نوى المكث دون هذه المدة، وما زاد عليها فمشكوك في مشروعيته؛ فنرجع فيما زاد إلى أصل الإتمام عند نزول الأمصار وترك النقلة. وحملوا ما زاد على ذلك في بقية الأخبار على حال من يقول: اليوم أسافر .. غداً أسافر، أو على احتمال انقضائها في أقل من أربعة.

وقد أُجيب عن أدلة هذا القول بأوجه منها:

الأول: أن أقصى مدة نزلها e يقصر الصلاة لو كانت حداً فاصلاً بين السفر والإقامة لبينها أوضح بيان شأنها شأن بقية الأحكام الشرعية المحدودة بعدد من الأيام؛ كمدة المسح على الخفين للمقيم والمسافر، وعدة الآيسة والصغيرة والمتوفى عنها زوجها، ومدة التربص في الإيلاء، وعدد أيام الصيام في الكفارات الشرعية؛ كالقتل والظهار والجماع في نهار رمضان وفدية الأذى للمحرم وكفارة اليمين، هذه في الأيام.

أما غير الأيام من الأعداد في مقادير الأحكام الأخرى فأكثر من أن تحصى، وذلك كمقدار صدقة الفطر، وأنصباء الأموال الزكوية، ومقدار الواجب في هذه الأنصباء، وبيان مقدار حولها، وغيرها كثير؛ فما من أمر يكون العدد فيه مقصوداً إلا بُيِّن بأوضح كلام وأجلى عبارة.

وهذه الأحكام التي بُيِّنت أعدادها لا يُحتاج إليها كحاجة حد الإقامة، بل كثير منها لا يحتاجه المرء في حياته إلا مرة واحدة، وبعضها قد لا يحتاج إليها مطلقاً، ومع ذلك كان لها هذا الحظ من البيان.

فلما لم تبين الشريعة مدة الإقامة التي تنتهي بها أحكام السفر مع قرب

مأخذها، وسهولة بيانها، وعظم الحاجة إليها دلَّ ذلك كله على أن أعداد الأيام في ضبط الإقامة ـــ حداً مشتركاً لجميع الناس ـــ غير مرادة،

وأن سبيل ضبط ذلك هو شيء غيرُ الأيام؛ فليُرجع فيه إلى أدلة الشريعة ليُستجلى، ويُضبط به ما اختلف فيه الناس.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في معرض نقضه على من قال بتحديد الإقامة بأربعة أيام قال: (ولو كان هذا حداً فاصلاً بين المقيم والمسافر لبينه للمسلمين) ([9]) اهـ.

الثاني: أنه eلم يقل لأصحابه الذين رافقوه في حجته: إنه قصر الصلاة لأنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وبيان هذا من أهم المهمات، أفاده العلامة ابن القيم رحمه الله ([10]).

الثالث: أنه لم يقل لمن جاء للحج قبله بيومٍ أو أ كثر، أو جاء معه ونوى التأخر بعده إلى صبيحة عرفة لم يقل له: ليس لك الترخص؛ لانقطاع إقامتك بنية المكث أكثر من أربعة أيام، رغم كثرتهم

وتواردهم من الأقطار لشهود حجته e وحاجتهم العظيمة للتعلم والفقه في الدين، وحرصه العظيم على بيان الدين، مع علمه بدنو أجله.

قال ابن تيمية عن قصر النبي e في حجة الوداع: ( .. لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم، ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك) ([11]).

الرابع: قال ابن تيمية: (معلوم بالعادة أن ما كان يُفعل بمكة وتبوك

لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال: إنه كان يقول: اليوم أسافر غداً أسافر، بل فَتَحَ مكةَ وأهلُها وما حولها كفار محاربون له،

وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب، وسرّى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم، ومثل هذه الأمور مما يُعلم

أنها لا تنقضي في أربعة أيام .. ) ([12]).

الخامس: أن تحديد الإقامة التي تنتهي بها أحكام السفر مسألة عامة يحتاجها جميع الناس في جميع الأمكنة والأزمنة، أما تحديد إقامة المهاجر في حديث العلاء هذا فهو خاص بالمهاجرين، في خصوص زمان معين هو وقت حياتهم، في خصوص مكان معين هو مكة؛ فهل يُظن أن تُعنى الشريعة بتحديد هذا مع خصوصه في الزمان والمكان والأشخاص، وتدع بيان حد الإقامة مع عمومه لهذه الأحوال؟

السادس: دل حديث العلاء t هذا على أنه ليس للمهاجر أن يقيم

في مكة بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاثة أيام، أي أن من زاد على الثلاثة

من المهاجرين عُدَّ مخالفاً للأمر، بيد أن بعض الفقهاء الذين استدلوا به لتصحيح هذا القول جعلوا نهاية الرخصة أربعة أيام؛ فعليه لا مطابقة بين الدليل والمدلول عليه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير