قال ابن تيمية: (ومن علَّل بوصف فعليه أن يبين تأثير ذلك الوصف، إما لكون الشرع جعل مثله مقتضياً للحكم، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم على الوصف؛ فإن لم يظهر التأثير لا شرعياً ولا عقلياً كان الوصف طردياً عديم التأثير) ([42]).
وقال الغزالي في الأوصاف الطردية المقرونة بالحكم قال: ( .. فإن قيل: ثبوت حكمها معها، واقترانه بها دليل على كونها علة، قلنا: غلطتم في قولكم: ثبوت حكمها؛ لأن هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونها علة؛ فإذا لم تثبت لم يكن حكمَها .. والاقترانُ لا يدل على الإضافة؛ فقد يلزم الخمرَ لونٌ وطعمٌ يقترن به التحريم، ويطرد وينعكس .. واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب وهبوب ريح) ..
.. (وبالجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل؛ كوضع الحكم،
ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه، ولا مفسد له، بل لا بد من
دليل؛ فكذلك العلة) ([43]).
فإن قيل: إن هذا الوصف ليس مُطَّرداً فقط، بل هو منعكس أيضاً؛ فقد وُجِد الحكم وهو الترخص عند وجود هذا الوصف؛ وذلك في أحوال نزول النبي e أثناء سفره، وانتفى حكم الترخص عند انتفاء هذا الوصف؛ وذلك حين نزل المدينة ولم يقيد إقامته بوقت أو عمل، ومذهب الجمهور على صحة التعليل بالدوران، وهو دوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً!؟
فالجواب: أن القائلين بالدوران يشترطون لصحة التعليل به "انتفاء المزاحم"، والمتأمل في الأوصاف التي وُجدت في أسفار النبي e وفي نزوله أثناءها يرى أنها كثيرة متزاحمة:
فمن هذه الأوصاف الاستيطان؛ فقد ترخص النبي e حين لم يؤبد إقامته، وترك الرخصة حين صار مستوطناً.
ومنها: الوصف العرفي للإقامة؛ فقد ترخص حين لم يكن مقيماً عرفاً في مسيره ونزوله، وترك ذلك في المدينة حين كان في إقامة عرفية.
ومنها: أنه ترخص حين كان نازلاً لحج وعمرة وجهاد، وترك ذلك في المدينة حين كان نزوله لمجرد السكنى.
فهذه الأوصاف كلها مطردة منعكسة فأيها نعتبر؟ فلا بد ـــ إذاً ـــ لبناء الحكم على أحد هذه الأوصاف دون البقية من دليل أو مناسبة معتبرة يتعين بها أحد الأوصاف دون الآخر.
قال ابن تيمية: (القياس إنما يصح .. إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد ـــ عند من يقول به ـــ فلا بد من السبر؛ فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن [يقول] الحكم بهذا دون هذا .. ) ([44]).
إلى أن قال في تتمة هذا الكلام: ( .. فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل فدعواهم أن الشارع علَّق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارَض بهذه الأوصاف، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا) ([45]).
حول الاستدلال بآثار الصحابة والتابعين:
وأما ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين من أنهم أقاموا مدداً طويلة يقصرون الصلاة، وأن في هذا دلالة على صحة هذا القول.
فالجواب عن ذلك هو: أن هذه الأخبار لم تتضمن أي دلالة على أن الصحابة والتابعين اعتبروا الغرض والوقت حداً بين حالي المقيم والمسافر؛ فلا حجة فيها لعدم الملاقاة.
ويقال من وجه آخر: بأنه لم يأت في هذه الأخبار ما يدل على أنهم نووا هذه المدة عند النزول، وغاية الأمر أنهم أخبروا بمكثها بعد قفولهم؛ فلا حجة فيها على قصد المدة الطويلة؛ فإن من ينتظر فراغ حاجته كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين مثلاً يُعتبر مسافراً عند الناس، وقد يبقى على هذه الحال سنة؛ فيُخْبِرُ عند قفوله أنه مكثها، ولكن ذلك لا يعني أنه نوى هذه المدة كلها عند نزوله، وهذا في أحوال المسافرين كثير؛ فلا يلزم من اجتماع المدة الكثيرة أن صاحبها قد نواها عند نزوله.
ومن وجه ثالث يقال: إن القائل بضابط الاستيطان يستدل أيضاً من هذه الأخبار بطول المدة، دون أن تظهر وجه حجيته لكل منهما، والبرهان الواحد في الشريعة لا يصحح أمرين مختلفين.
فلا بد من البحث عن سبب آخر لترخص الصحابة والتابعين هذه المدد الطويلة غير هذين السببين؛ وذلك لعدم صلاحهما لبناء حكم الرخصة.
¥