ومن آثار الصحابة والتابعين: استدل أثابه الله بأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أقاموا بِرَامَهُرْمُز تسعة أشهر يقصرون الصلاة ([29]).
وبأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أقام مجاهداً بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ([30]).
وبما صح عنه أن رجلاً سأله t عن إطالة القيام بالغزو في خراسان؟ فقال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين! ([31]).
وبأن عبد الرحمن بن سمرة t قصر بكابل شتوة أو شتوتين ([32]).
واستدل أيضاً بإقامة سعد بن مالك t شهرين بعمان يقصر الصلاة ([33]).
وبما جاء عن أبي وائل قال: أقمت مع مسروق سنتين يصلي ركعتين بالسلسلة، قال: فقلت له: ما حملك على هذا يا أبا عائشة؟ فقال: التماس السنة ([34]).
وبما جاء عن أبي المنهال أنه قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ قال: صل ركعتين! ([35]).
ووجه الاستدلال من هذه الآثار أنها دلت على مشروعية الترخص مع المدة الطويلة ([36]).
وقد استدل أثابه الله من القياس بأشياء إنما هي إيرادات واعتراضات على أدلة المحددين بمدة، وليست استدلالاً يثبت صحة ضابط إرادة الوقت والعمل الذي ذكره؛ لذلك لم أذكرها هنا؛ فراجعها هناك ([37]).
مراجعةٌ لأدلة هذه الفتوى:
قد يُجاب عن الاستدلال بالآية بأن عمومها للمغتربين غير مُسلَّم؛ فلا يجوز أن يقال بهذا العموم إلا في أفراد الحقيقة المعتبرة فقط؛ فإذا كانت الحقيقةُ شرعيةً مثلاً شمل لفظُ العموم الواردُ أفرادَ هذه الحقيقة فقط، دون أفراد اللغوية والعرفية.
مثال ذلك: قوله e " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" ([38])؛ فالصلاة
نكرة في سياق النفي؛ فهي لفظ عام، ولكن هل يقال: إن عموم هذا اللفظ يشمل الصلاة اللغوية كالدعاء؛ فنقول بناء على ذلك: لا يصح الدعاء إلا بوضوء؟ أو يقال ـــ وهو الصحيح ـــ: إن هذا العموم يشمل أفراد الحقيقة الشرعية فقط؛ لأنها المعتبرة هنا؛ فيشمل عمومُ هذا الحديث الصلوات الشرعية؛ كالفرائض والجنازة والعيدين والكسوفين والوتر، وغيرها مما يُعرف شرعاً باسم الصلاة إذا أُطلق.
فلا بد ـــ قبل إجراء العموم ـــ من تحديد مقصد الشارع من اللفظ هل يريد به الحقيقة اللغوية أو الشرعية أو العرفية؟ فإذا ثبتت إحدى هذه الحقائق لتعيين المراد باللفظ كان العموم منتظماً لأفراد هذه الحقيقة المعيَّنة دون سواها من الحقائق ([39]).
وفي مسألتنا هذه إذا كانت الحقيقة المعتبرة في لفظ السفر هي الحقيقة العرفية على الصحيح، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين ([40]) أثابه الله؛ فإن دعوى العموم لا تصح إلا فيما كان سفراً عرفاً فقط.
وما دام أن حالات نزول المغتربين وأمثالهم ـــ ممن يقيد إقامته بوقت أو عمل في حالٍ من الاستقرار في سكن المثل في مدة طويلة ـــ لا تُعدُّ في العرف من السفر لا حقيقة ولا حكماً فإن دعوى عموم لفظي السفر والضرب في الأرض لأحوالهم غير مسلمة، وهذا هو المطلوب في هذا الجواب.
حول علة الترخص في الحديثين:
ذكر شيخنا العلامة ابن عثيمين أثابه الله أن علة الترخص هي إرادة النازل مدة معينة أو إنجاز غرض محدد؛ لكون الوصف الأول ـــ وهو إرادة المدة ـــ موجوداً في مقامه e في مكة عام حجة الوداع، وكون
الثاني ـــ وهو النزول لأجل الغرض ـــ موجوداً في إقامة النبي e في مكة عام الفتح، وكذلك في تبوك.
وهذا استخراج للعلة بـ "مسلك الطرد"، حيث يقول المستدل: إن الحكم وُجِد عند وجود هذا الوصف، وهو تقييد الإقامة بزمن، أو نهاية عمل؛ فيكون هذان الوصفان علةَ الرخصة؛ فمتى وُجدا في محل النزاع ثبت الترخص.
والصحيح أن مسلك الطرد هذا غيرُ معتبر في استنباط العلة ([41]).
ولو صح اعتبارُ كلِ وصف مقارن مطرد دون سبرٍ صحيح وتنقيحٍ
معتبر، ودون بيانٍ لدليل تأثير ذلك الوصف للزم من ذلك اعتبارُ أوصافٍ أخرى في أسفاره e ككونه لم يؤبِّد إقامته في منازله تلك، أو كونه في
رفقة، أو كون السفرِ بِرُمَّته طاعةً أو طويلاً، وغيرها من الأوصاف التي لم تدل الشريعة أو العقل على اعتبارها مؤثرة في حكم الرخصة.
ووصف إقامة النبي e بذلك لا يختلف عن هذه الأوصاف المذكورة؛ فهي أوصاف طردية لا يصح أن يُعتبر منها وصف؛ لأن الشريعة لم تعتبر شيئاً منها مؤثراً في الحكم لا بالنص ولا بالاستنباط.
¥