أما الذين دونوا مذاهبهم بأنفسهم ولم يتدخل أصحابهم في تدوينها؛ كالثوري والأوزاعي وأبي ثور والليث، وكذلك الذين بقي حظ مذهبهم هو النقل من طريق الحفظ ـ فقد بقيت مذاهبهم فريدة لم تختلط فيها أقوالهم بأقوال غيرهم، ونقلها الآخرون فيما يدونون كما نقلوا مذاهب الصحابة والتابعين.
ومنذ أواخر عصر التابعين ظهرت المذاهب الفقهية ظهورًا بينًا، وقد شارك في شهرة مذاهب معينة بالذات دون غيرها عوامل كثيرة؛ منها:
ـ شهرة صاحب المذهب وغزارة علمه، ووضوح شخصيته، وامتلاؤها بالهيبة والجلال في نفوس من حولها.
ـ امتداد علم صاحب المذهب في شخص تلاميذه، بمعنى أن يكون للأستاذ تلاميذ يحملون مذهبه إلى الناس، ويدونونه، وينشرونه، ويتخذون أصول مذهب الشيخ أسسا لفقههم واجتهادهم. ومعنى هذا أن علم الشيخ ليس هو الحاكم الوحيد على انتشار مذهبه، فقد قال الشافعي: "الليث أفقه من مالك، إلا أن تلاميذه لم يقوموا به".
ـ توافر المساندة السياسية للمذهب: وهذا من الأسباب التي تعين على انتشار مذهب بعض الشيوخ دون غيرهم، وليس شرطا ضروريا لا ينتشر المذهب بدونه، فإن كان مذهب أبي حنيفة قد انتشر في بداية الدولة العباسية بسبب موقع أبي يوسف في الدولة كقاض للقضاة، ومذهب مالك قد انتشر في الأندلس للمنزلة التي كانت ليحيى بن يحيى الليثي في نفوس البيت الأموي الحاكم ـ إذا كان هذا قد حدث للمذهبين، فإن مذهب الشافعي وأحمد لم يجدا في البداية مثل هذا العون.
ومن المذاهب الفقهية ما قصر أجله، ومنها ما طال عمره وقوي نفوذه، وهذا يخضع لظروف قد يمر بها المذهب وصاحبه، فالإمام الحجة سفيان الثوري (ت 161هـ) كان له أتباع أخذوا عنه ورووا كتبه، ولكنه مات مستترًا من ذوي السلطان، وكان أوصى بكتبه فمحيت وأحرقت. وكان من الآخذين عنه أناس باليمن، وآخرون بأصفهان، وقوم بالموصل. وقد انقرض أهل هذا المذهب في وقت قصير جدًّا ثم اختفت كتبهم.
أما عبد الرحمن الأوزاعي المتوفى سنة 157 هـ فقد انتشر مذهبه بالشام حتى ولي قضاء دمشق أبو زرعة محمد بن عثمان، من أتباع الشافعي، فأدخل مذهب الشافعي الشام، وعمل على نشره، وكان يهب لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار، فانقرض أتباع الأوزاعي بالشام في القرن الرابع، وكان مذهب الأوزاعي الغالب على أهل الأندلس، ثم انقطع هناك بعد المائتين وتغلب مذهب مالك.
ويقول ابن فرحون (799هـ): "إن داود بن علي المتوفى سنة 270 كثر أتباعه، وانتشر مذهبه ببلاد بغداد وبلاد فارس، وأخذ به قليلون من أهل إفريقية وأهل الأندلس، وهو ضعيف الآن"؛ أي في القرن الثامن.
ويقول ابن خلدون (ت 808هـ): "إن مذهب أهل الظاهر قد اندرس اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على مُنتحليه، ولم يبق إلا في الكتب المجلدة، وربما عكف عليها كثير من الطالبين الذين تكلفوا انتحال هذا المذهب؛ ليأخذوا منها مذهبهم وفقههم، فلا يظفرون بطائل، ولا ينالون إلا مُخالَفة الجمهور وإنكارهم عليهم، وربما عُدُّوا مبتدعين بنقلهم العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين".
وأما الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310هـ)، فقد أخذ الفقه عن داود، ودرس فقه أهل العراق ومالك والشافعي على رجاله، وكان يرى أن أحمد بن حنبل فقيه وليس محدثًا. وبعد أن نضج كان له مذهب في الفقه اختاره لنفسه، وكان له أتباع من أجلِّهم المعافى النهرواني القاضي، وكان له ولأتباعه مؤلفات فقهية، لكنها لم تصل إلينا، ولولا تفسيره الجليل ما وصل إلينا هذا القدر القيم من مذهبه، ولم نقف حتى الآن على أنه كان له أتباع موجودون بعد القرن الرابع.
والمذاهب الفقهية الباقي أتباعها حتى اليوم هي: المذاهب الأربعة، ومذهبا الزيدية والجعفرية "الإمامية الإثنا عشرية"، ومذهب الإباضية. أما الفرقة الإسماعيلية فلها أتباعها ولكن فقهها ليس بظاهر.