قد يَعجَبُ العُذَّال من رجُلٍ يَبْكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ
هَيهْاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ إنِّي وَبِي عَزْمُ الرجالِ، أبُ
ولا يكاد قارئ للشعر, أو مستمع له, أو مستمتع به, أو متذوق لمعانيه, أو مفتون بمبانيه, ينكر على شاعرنا استعماله لهذه الكلمة, وتكراره لها, على نحو ما قرأتَ .. وسمعتَ .. وتذوقتَ .. وفُتِنتَ! كيف لا وقد طار ذكر هذه القصيدة في الآفاق, ونالت من الشهرة والذيوع والانتشار ما جعل صاحبها نفسه يعجب من ذلك, حتى سماها (القصيدة المحظوظة)! بل لقد أعجب بها عملاق الأدب والنقد عباس محمود العقاد, على قلة ما يعجبه من شعر المعاصرين, وعدَّها من عيون الشعر الإنساني, وقال عنها في ندوة من ندوات منزله في مصر الجديدة في رمضان 1381هـ: "لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته .. ! ". وترجمت إلى اللغة الفرنسية وقورنت بقصائد فيكتور هوغو في الأطفال, وعرضت في برامج تلفازية خاصة, ونشرت في الكثير من المجلات والكتب المدرسية. وكانت هذه القصيدة الدافع لإخراج الشاعر الأميري ديوان "أب".
ومع ذلك فقد أنكر قوم على شاعرنا استعماله كلمة "بابا" في هذه القصيدة, وذهبوا في ذلك كل مذهب.
إذ كيف يجوز لفصيح مثله أن يستعمل كلمة عامية؟؟
بل كيف يجوز لبليغ مثله أن يرطَنَ بكلمة أعجمية؟؟
بل كيف يجوز لشاعر كبير مثله أن يناغي بكلمة طفولية؟؟
كان من سوالف الأقضية أني حضرت حفلا بهيجاً .. ضمَّ ثلَّةً من العلماء والأعيان والأفاضل، وتقاطَرَ فيه الخطباء يتحفوننا بأفانينَ من القول والوعظ والإرشاد، وكان منهم خطيب فاضل أديب* استهلَّ كلمته وما أحسن ما استهلها بقصيدة الأميري هذه, وما إن وصل الخطيب إلى كلمة بابا في القصيدة حتى همس لي صاحبي بالجَنْبِ في أذني يسأل مستنكراً: أليست كلمة بابا أعجمية؟ فأشرت إليه أن لا، وتابعت الاستماع مستمتعاً بالقصيدة والخطبة، ثم بدا لي أن أنبِّه على أصالة هذه الكلمة في العربية فقمت شِبْهَ خطيب, وعلّقت على الأستاذ الأديب, مبيناً أن كلمة بابا عربية الأصل كريمة النِّجار والمَحْتِد مستدلاً بما جاء في المعاجم العربية من أنه: (بأبأ الصبيُّ إذا قال بابا). وكثر الهمس والتعليق، وتعدّى صاحبي بالجَنب إلى أصيحابٍ جُنُبٍ, بل إلى أساتذة أجلاء, ما كانوا ليوافقوني على ما ذهبت إليه بعد أن أتى عليهم حين من الدهر يسمعون هذه الكلمة تتردد على ألسنة أعجمية أو ترطَن بها ألسنة عامية لا عهد لها بالفصحى وأهلها.
وأدركت لتوّي أن ما سقته من حديث المعاجم في تلك العجالة لم يُجْدِ عندهم نفعاً, ولم يجِدْ لديهم مقنعاً، في أصل كلمة غَبَر على الناس زمان يعتقدون فيه أنها أعجمية تسرّبت إلينا من اللغة الفرنسية ( papa) أو من غيرها, بل لقد نادى بعض الخواصّ بإلغاء تعليمها لأطفالنا في مراحل تعليمهم الأولى لما تحمله من أوضار العجمة!
وإن تعجَبْ فعجَبٌ أمرُ مَن يُنكرُ وجود هذه الكلمة في المعاجم العربية، ثم حين يتبدّى له على وجه اليقين أنها موجودة يُعجزه استخراجُها، لأنه لا يعلم من أي باب تخرج أوتحت أيِّ أصلٍ تندرج!. مع أن الأمر في غاية السهولة واليسر، ولو أنه فتح الجزء الأول من معجم اللسان لقرأ في صفحاته الأولى (مادة بأبأ) الكلامَ التالي:
( ... وبأبأتُهُ أيضاً، وبأبأتُ بِهِ قلت له: بابا. وقالوا: بأبأ الصبيَّ أبوه إذا قال له: بابا. وبأبأه الصبيُّ إذا قال له بابا. وقال الفرّاء: بأبأتُ بالصبيِّ بِئْباءً إذا قلت له: بِأَبي. قال ابن جني: سألت أبا عليّ فقلتُ له: بأبأتُ الصبيَّ بأبأةً إذا قلت له بابا، فما مثالُ البأبأةِ عندك الآن؟ ... ) [لسان العرب (بأبأ)].
وتكاد معاجمنا العربية القديمة والحديثة تجمع على هذا الذي نقله صاحب اللسان، فقد أورد المادة بهذا المعنى كلٌّ من الفيروزآبادي في قاموسه والزبيدي في تاجه، كما جاءت في معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا والمعجم الوسيط [انظر مادة (بأبأ) في القاموس المحيط، وتاج العروس، ومتن اللغة، والمعجم الوسيط].
ولو ذهب الباحث ينقِّرُ في كتب اللغة وعلومها لظفر بكثرةٍ كاثرة من النصوص تثبت هذه اللفظة بمعناها الذي تعارف عليه الناس اليوم، فقد جاء في نوادر اللغة لأبي زيد الأنصاري (119 - 215هـ وهو المعنيُّ بقول سيبويه في الكتاب: حدثني الثقة):
¥