تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأنت إذا وازنت بين هذا وبين الشريعتين المنسوختين، ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعن الله ورسوله فاعله، تبين لك عظمة هذه الشريعة، وجلالتها، وهيمنتها على سائر الشرائع، وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق، وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدلة، فإن الله سبحانه شرعهما في وقت، ولم يشرع المبدلة أصلا.

وهذه الدقائق ونحوها مما يختص الله سبحانه بفهمه من يشاء؛ فمن وصل إليها فليحمد الله، ومن لم يصل إليها فليسلم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين.

وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء وفق فطر الألباء: وقل للعيون الرمد لا تتقدمي إلى الشمس واستغشي ظلام اللياليا وسامح ولا تنكر عليها وخلها وإن أنكرت حقا فقل خل ذا ليا غيره

: عاب التفقه قوم لا عقول لهم وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر.

فصل [حكمة قطع يد السارق دون لسان القاذف مثلا] وأما قوله: " وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية، ولم يقطع فرج الزاني وقد باشر به الجناية، ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف " فجوابه أن هذا من أدل الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.

ونحن نذكر فصلا نافعا في الحدود ومقاديرها، وكمال رتبها على أسبابها، واقتضاء كل جناية لما رتب عليها دون غيرها، وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح، ونورد أسئلة لم يوردها هذا السائل، وننفصل عنها بحول الله وقوته أحسن انفصال، والله المستعان وعليه التكلان.

إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لما خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجا عنها، فجعل في أنفسهم العقول الصحيحة والأسماع والأبصار والإرادة والشهوات والقوى والطبائع والحب والبغض والميل والنفور والأخلاق المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسببه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه، وتكره حصوله فتدفعه عنها، ثم أكد أسباب هذا الابتلاء بأن وكل بها قرناء من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيرة العادلة الطيبة، وجعل دواعي القلب وميوله مترددة بينهما؛ فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر مرة، ليتم الابتلاء في دار الامتحان، وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء، وكلاهما من الحق الذي خلق الله السماوات والأرض به ومن أجله، وهما مقتضى ملك الرب وحمده؛ فلا بد أن يظهر ملكه وحمده فيهما كما ظهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره، وأقام سوق الجهاد لما حصل من المعاداة والمنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به.

فلم يكن بد من حصول مقتضى الطباع البشرية وما قارنها من الأسباب من التنافس والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدي ما حد له والتقصير عن كثير مما تعبد به، وسهل ذلك عليها اغترارها بموارد المعصية مع الإعراض من مصادرها، وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولها على الحاضر المشاهد، وتجافيها عن الغائب الموعود وذلك موجب ما جبلت عليه من جهلها وظلمها؛ فاقتضت أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته البالغة ونعمته السابغة ورحمته الشاملة وجوده الواسع أن لا يضرب عن عباده الذكر صفحا، وأن لا يتركهم سدى، ولا يخليهم ودواعي أنفسهم وطبائعهم، بل ركب في فطرهم وعقولهم معرفة الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة ومعرفة أسبابها، ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عرفهم به مفصلا على ألسنة رسله، وقطع معاذيرهم بأن أقام على صدقهم من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، وصرف لهم طرق الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وضرب لهم الأمثال وأزال عنهم كل إشكال، ومكنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين، وأعانهم عليه بكل سبب، وسلطهم على قهر طباعهم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير