تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[القطع وموجبه] وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا، وعقوبة السارق؛ فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل؛ فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس، وأخذ أموالهم، ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم؛ ضم إلى قطع يده قطع رجله؛ ليكف عدوانه، وشر يده التي بطش بها، ورجله التي سعى بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يدا من شق ورجلا من شق.

[الجلد وموجبه] وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض، وعلى العقول، وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغا يوجب القتل ولا إبانة طرف، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سببا لأشنع القتلات، ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم المعوض، فانتهض ذلك المعارض سببا لإسقاط القتل، ولم يكن الجلد وحده كافيا في الزجر فغلظ بالنفي والتغريب؛ ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخلطاء ما يزجره عن المعاودة؛ وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالبا ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي، وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع، بل ضرب فيها بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والجريد، وضرب فيها أربعين، فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمرنا باتباع سنته، وسنته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعلها ثمانين بالسوط، ونفى فيها، وحلق الرأس، وهذا كله من فقه السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة، ولم ينسخ ذلك، ولم يجعله حدا لا بد منه؛ فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة، فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل.

فصل [تغريم المال وموجبه] وأما تغريم المال - وهو العقوبة المالية - فشرعها في مواضع: منها تحريق متاع الغال من الغنيمة، ومنها حرمان سهمه، ومنها إضعاف الغرم على سارق الثمار المعلقة، ومنها إضعافه على كاتم الضالة الملتقطة، ومنها أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومنها عزمه صلى الله عليه وسلم على تحريق دور من لا يصلي في الجماعة لو لا ما منعه من إنفاذه ما عزم عليه من كون الذرية والنساء فيها فتتعدى العقوبة إلى غير الجاني، وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل، ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قتله، حيث شفع فيه هذا المسيء، وأمر الأمير بإعطائه، فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر.

[التغريم نوعان مضبوط، وغير مضبوط] وهذا الجنس من العقوبات نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط؛ فالمضبوط ما قابل المتلف إما لحق الله سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق الآدمي كإتلاف ماله، وقد نبه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله: {ليذوق وبال أمره} ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان، كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه، وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ببطلان تدبيره، وعقوبة الموصى له ببطلان وصيته، ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها.

وأما النوع الثاني غير المقدر فهذا الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح، ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام، وقدر لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود، ولهذا اختلف الفقهاء فيه: هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح، ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة.

التعزير ومواضعه] وأما التعزير ففي كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحد ولا كفارة فيه، ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه، ونوع لا حد فيه ولا كفارة؛ فالأول - كالسرقة والشرب والزنا والقذف، والثاني: - كالوطء في نهار رمضان والوطء في الإحرام، والثالث - كوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره وقبلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك؛ فأما النوع الأول: فالحد فيه مغن عن التعزير، وأما النوع الثاني: فهل يجب مع الكفارة فيه تعزير أم لا؟ على قولين: وهما في مذهب أحمد، وأما النوع الثالث: ففيه التعزير قولا واحدا، ولكن هل هو كالحد؛ فلا يجوز للإمام تركه، أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته، وتركه كما يرجع إلى اجتهاده في قدره؟ على قولين للعلماء، الثاني قول الشافعي، والأول قول الجمهور.

وما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة، ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة، وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد وأبو حنيفة ومن وافقهما، وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبهما، بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي، وإنما عملها فيها فيما كان مباحا في الأصل وحرم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام، وطرد هذا وهو الصحيح وجوب الكفارة في وطء الحائض، وهو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به، فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة؟، وعكس هذا الوطء في الدبر ولا كفارة فيه، ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض؛ لأن هذا الجنس لم يبح قط، ولا تعمل فيه الكفارة، ولو وجبت فيه الكفارة لوجبت في الزنا واللواط بطريق الأولى؛ فهذه قاعدة الشارع في الكفارات، وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير