[الشذوذ والإبداع!]
ـ[أحمد بن صالح الزهراني]ــــــــ[23 - 04 - 09, 02:52 م]ـ
بين الشّذوذ الفقهي والفكري وبين الإبداع والتجديد شعرة، وما أدقّها، حتّى أصبحنا الآن في خلط واضح يعسُر معه التفريق بين الطرح التجديدي الواعي المعتمد على آلة الاجتهاد المعتبرة، وبين الشّذوذ والابتكار المعتمد على أذواق وشهوات أصحابه، والّذي أنتج لنا مجموعة من الآراء الشاذة والغريبة وإن كانت بسبب شيوع ثقافة التلبيس مُستساغة عند كثير ممّن قلّ حظّه من العلم بأصول الشريعة وقواعد الفقه الإسلامي المنضبط.
قال عبدالرحمن بن مهدي: «لايكون إماماً في العلم من أخذ بالشّاذّ من العلم» [جامع بيان العلم ص (346)]
وقال إبراهيم بن أبي عبلة: «من حمل شاذّ العلماء حمل شراً كثيراً» [الكفاية ص (140)].
والشّذوذ إن عُذر فيه مجتهد لم يجز لغيره متابعته عليه.
والمقصود بالانفراد المذموم هو أن لا يكون للعالم سلفٌ في قوله وإلاّ فالانفراد عن المعاصرين ليس مذمّة بالضرورة، بل كثيراً ما يكون مكرمة، ولهذا فليس من الشّذوذ ما كان عن سعة علم، فإنّ بعض النّاس يتسرّع في وصف النّاس بالشّذوذ، وإنّما ذلك لنقص علمه، قال السّبكي: «كان أبو عمر غلام ثعلب مؤدّب ولد القاضي أبي عمر، فأملى ثلاثين مسألة بشواهدها وأدلّتها من كلام العرب، واستشهد في تضاعيفها ببيتين غريبين جدّاً، فعرضهما القاضي على ابن دريد وابن الأنباري وابن مقسم فلم يعرفوهما، ولا عرفوا غالب ما ذكر من الأبيات، وقال ابن دريد: هذا ممّا وضعه أبوعمر من عنده.
فلمّا جاء أبو عمر وذكر له القاضي ما قال ابن دريد، طلب من القاضي أن يحضر له ما في داره من دواوين العرب، فلم يزل يأتيه بشاهد لما ذكره بعد شاهد، حتّى خرج من الثّلاثين مسألة ثمّ قال: وأمّا البيتان فإنّ ثعلباً أنشدناهما وأنت حاضر فكتبتهما في دفترك، فطلب القاضي دفتره فإذا هما فيه، فلمّا بلغ ذلك ابن دريد كفّ عن أبي عمر الزّاهد حتّى مات» [طبقات الشّافعيّة الكبرى (3/ 191)].
وقال الأستاذ أبو الحسن النّدوي في بيان أسباب المعارضة لشيخ الإسلام: «وسببٌ آخر لمعارضته؛ هو بعض التحقيقات وترجيحاته الّتي ينفرد بها، وينشقّ فيها عن جماعة الأئمّة الأربعة والمذاهب المشهورة في بعض الأحيان، إنّ هذه التّفرّدات لا تبعث وحشةً واستنكاراً في نفوس من لهم اطّلاع واسع على تاريخ الفقه والخلافيات وأقوال الأئمّة والمجتهدين ومسائلهم، إنّهم يعرفون جيّداً أنّ تفرّدات الأئمّة المشهورين، والأولياء المقبولين، ومسائلهم الغريبة إذا جُمعت تتضاءل أمامها هذه التّفرّدات وتبدو لهم كلاشيء، ويتضعضع اعتقادهم بالتّفرّد الّذي يعتبرونه مضاداً للقبول ومنافياً للحق.
وأما الّذين لا يملكون نظرة واسعة حول الخلافيات، أو أنهم يسمحون بالتّفرّد والشّذوذ للمتقدّمين؛ لكنّهم لا يرون في ذلك مجالاً للمعاصرين مهما بلغوا من التّفوّق والكمال شأواً بعيداً؛ فقد أصبح التّفرّد أيضاً مبعثاً للمخالفة وفساد العقيدة والضّلال ودليلاً على خرق الإجماع» [رجال الفكر والدّعوة خاص بحياة شيخ الإسلام ص (119)].
إنّ سمة الاتّباع والحرص على نسَبِ العلم من أهمّ سمات الفقيه، فليس الفقيه من كان أقدر على ابتكار الأقوال، وإنّما الفقيه كل الفقه من قارب فقهُه فقهَ السّلف وحرص على مقاربة من تقدّمه، فإنّ ممّا يتميّز به علم الشّريعة أنّ أصالته وقوّته لا تأتي من الابتكار، بل على العكس فكلّما كان القول أقدم وأغرق في القدم كلّما كان أكثر أصالة ومتانة، وكلّما شعر الفقيه بانفراده بقولٍ اجتهد فيه كلّما كان مستوحشاً منه، قال الحلِيمي في مسألة رآها: «هذا مما استنبطتُه أنا، وكان في قلبي منه شيء، فعرضته على القفّال الشّاشي وابنه القاسم، فارتضياه فسكنتُ، ثمّ وجدته لابن سريج فسكن قلبي إليه كلّ السّكون» [طبقات الشافعية (3/ 474)].
وقال العلامة ابن الوزير في مناسبة تشبه هذا: «وقد كان وقع في خاطري، وكنت محباً أن أقف على مثل ذلك لأحد من أهل العلم؛ لاستأنس بموافقته , فأسلم من وحشة الشّذوذ» [الروض الباسم (2/ 450)].
ومن ذلك ما ذكره العلاّمة مصطفى الزّرقاء عن والده الشّيخ أحمد، صاحب كتاب (القواعد الفقهيّة)،حيث قال في ترجمته: «وكثيراً ما كان يوجّه ويعلّل بعض الفروع الفقهيّة الدّقيقة غير المعلّلة (*)،ثم يجد في أثناء مطالعته التّعليل أو الفهم الّذي ارتضاه منصوصاً عليه في بعض المراجع؛ فيشعر بغبطة كبيرة» [شرح القواعد الفقهية ص (12)].
==================
(*) وهذا في الحقيقة من مهام المتفقّه، فليس المراد بالاجتهاد والتفقّه فقط في المسائل الحادثة الّتي لم يتكلم فيها المتقدّمون، فإنّ له في المسائل الّتي تقدم البحث فيها مجالات رحبة من البحث، ومنها سد الثغرات في الأقوال كتعليل ما لم يُعلل، وإلحاق الفروع الحادثة بأصولها، وتنقيح بعض الاستدلال وتقويته أو بيان ضعفه، وبيان مخالف لم يُذكر في المسألة، أو موافق، أو دليل لم يُذكر، لا مجرد حفظ القول بدليله، فليس هذا بالفقه!