وقد ذكر ابن تيمية - رحمه الله – في (مجموع الفتاوى 11/ 344 – 345) أن الشريعة لا يمكن أن تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وتركنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
ثم قال - رحمه الله -: "لكن ما اعتقده العقل مصلحة، إن كان الشرع لم يرد به، فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيراً ما يتوهم الناس، أن الشيء ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال - تعالى - في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام، وأهل التصوف، وأهل الرأي، وأهل الملك، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعاً وحقاً وصواباً، ولم يكن كذلك.
بل الكثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ? [الكهف: 104]، {وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً ... }.
ومن هنا ندرك أن الإنسان - مهما أوتي من العلم، وبلغ من العقل والفهم - فإنه عاجز بطبيعته عن الإحاطة بالمصالح الحقيقية، وكيفية الوصول إليها في الدنيا والآخرة، وهو إن أدرك بعضها، فإنه عاجز عن إدراك جميعها، وما أدرك منها فإنه لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، قال الله تعالى: {?وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
هذا مع أن العقل لا يسلم في الغالب من مؤثرات البيئة وشوائب الأهواء والشهوات، والعواطف والنزعات، ويدل لذلك أن الناس يتناقضون في أحكامهم، بل الشخص الواحد يناقض نفسه، فينقض اليوم ما أبرمه بالأمس، ومن أجل ذلك كان الإنسان في ضرورة حقيقية ماسة إلى الاهتداء بالشرع القويم، الذي يفتح بصيرته وينير له الطريق ويهديه إلى سواء السبيل، ويكفل له مصالحه في دنياه وآخرته.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – في (مجموع فتاوى ابن تيمية 19/ 99 – 100): "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً.
وليس المراد بالشرع: التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميزان بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان والتوحيد، والعدل والبر والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره .. وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعتهم في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مننه عليهم، أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم. ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالاً منها".
ويقول الإمام الشاطبي في (الموافقات 2/ 48): "ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام" إلى أن قال: "فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل".
¥