تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذه هي الحرية التي بنيت عليها دعوة الإسلام، إلا أن الفرق الأساسي بين هذه الحرية والحرية التي يدعو إليها العلمانيون هي أن الحرية التي نادى بها الإسلام، بل أسس عليها، هي فيما يخص العلاقة بين مخلوق ومخلوق، فالإسلام لا يبيح خضوع مخلوق لمخلوق، ويساوي بين الجميع أمام الله تعالى، وهذا ما أراد أن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته وهو يناديهم يوم الجمع الأعظم، (أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض إلا بالتقوى).

إذن هذه الحرية هي كما قلت فيما يعنى بالعلاقة بين مخلوق ومخلوق، أما إذا تعلق الأمر بالعلاقة بين المخلوق والخالق فلا حرية، وليس هناك إلا العبودية، والعبودية المطلقة، وهذا هو أساس الخلاف.

إن الإسلام حين حرر البشر من الخضوع لسائر أنواع المتسلطين في الأرض، أصناماً كانوا أو أحبار وكهانا أو حكاماً وضع منهاجاً يحمي البشر من الوقوع في براثن هذه العبودية المذمومة، ويمنعهم من الوقوع في براثن عبودية مألوه آخر، يعبده كثير من الناس ويدينون له بالطاعة والولاء، وهو الهوى والشهوة (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا)،وهذا المنهج هو ما يسميه المسلمون"التوحيد" أي صرف كل أنواع العبادة وأشكالها لله سبحانه وتعالى، والإسلام حين منع الخضوع لأي مخلوق، فذلك حتى يكون الخضوع التام والكامل لله سبحانه وتعالى، ولم يترك للإنسان الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء، ويتصرف كيف شاء، ويعبد من شاء، بل كل النصوص التي تمنع من صرف أي نوع من أنواع العبودية لغير الله توجه المتلقي إلى صرف ذلك النوع من العبادة لله تعالى (اعبدوا الله مالكم من إلاه غيره) (فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون) (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (من ذبح لغير الله فقد أشرك) (من حلف بغير الله فقد أشرك) .... وعشرات النصوص التي تحرر المسلم من الخضوع لأي مخلوق، لكنها تجعله عبد الله سبحانه وتعالى.

إنني لا أدري هل الأستاذ يقر بعبوديته لله تعالى أو لا يقر بذلك، إلا أنني سأحسن الظن به، خاصة وهو يؤكد أن العلمانية لا تعني الإلحاد بأي حال من الأحوال، وهذا أمر أوافقه عليه وسأتعرض له فيما بعد، المقصود أن كونه علمانياً لا ينفي إيمانه بوجود الله تعالى وبكوننا عباداً لله تعالى، إلا أنني أسأله سؤالاً: ما معنى كوني عبداً لله؟ إن العبودية تقتضي تمام الطاعة والانقياد والالتزام بالأوامر والتعليمات والخوف من الخروج عن ذلك والزيغ عنه، إن معنى العبودية المسارعة إلى الإرضاء، أي إرضاء المعبود والتقرب منه، والإتيان بما يحبه ويطلبه، وبالمقابل البعد عن كل ما يغضبه ويسخطه، ولو كان إتيان ذلك موافقا للهوى والشهوة، والعبودية تقتضي حب الجائزة والأجر والثواب من السيد، وبالمقابل الخوف من عقابه وحسابه، هذا هو معنى العبودية، إذن فلا يعقل أن يدعي أننا عباد لله، أي هو معبودنا وإلا هنا، وقلوبنا لا تخضع له حباً وتعظيماً وتوكلاً وخوفاً وخشية، لا يمكن أن نكون عباداً لله ونحن لا نرفع بأوامره ونواهيه رأساً، لا يمكن أن ندعى العبودية نحن لا نحتكم إلى معبودنا ومولانا في كل شؤون حياتنا، لأنه مالكنا وخالقنا، إن معنى كوننا عبيداً لله طاعتنا له سبحانه وتعالى، وخضوعنا التام والكامل له وامتثالنا لكل ما شرعه لنا (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)،بل أكثر من هذا، إننا لا نعتبر العبودية واجباً وأمراً لازماً فقط، بل إن نظرتنا لمعنى العبودية تتجاوز ذلك إلى اعتبارها الغاية العظمى من هذه الحياة، والغاية من الخلق، فالله عز وجل فد استخلفنا في هذه الأرض (واستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) واستعمرنا فيها (واستعمركم فيها)،لكن هل العمارة والاستخلاف هما غاية الخلق والإيجاد؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير