رابعاً: وكان هذا العمل مستفيضاً لدى فقهاء التابعين وأجلتهم، لا تُقام الأسواق والصلاة حاضرة في الحواضر، وإذا قدم أهل البوادي أخذوا حُكم الحواضر، كما رواه أحمد في "مسنده" والبيهقي في "الشعب" واللفظ له وغيرهما عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن أبيه قال: قدمت الكوفة أنا و صاحب لي لأجلب منها نعالاً فغدونا إلى السوق ولما تقم فقلت لصاحبي: لو دخلنا المسجد.
وكما ثبت هذا عن غير واحد منهم، كأيوب بن أبي تميمة السختياني كما رواه البيهقي في الشعب عن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان أيوب يؤم أهل مسجده –يعني في البصرة- و يقول هو للناس: الصلاة الصلاة.
يعني يطوف عليهم مذكراً لهم.
وروي عن الحسن: والله لقد كانوا يتبايعون في الأسواق فإذا حضر حق من حقوق الله بدأوا بحق الله حتى يقضوه ثم عادوا إلى تجارتهم.
وروى ابن سعد عن عمران بن عبد الله عن سعيد بن المسيب قال: كان سعيد يكثر الاختلاف إلى السوق وما فاتته صلاة الجماعة منذ أربعين سنة ولا نظر في أقفائهم.
خامساً: على هذا أجلة الأئمة من أتباع التابعين:
ففي "الحلية" لأبي نعيم عن سفيان الثوري: كانوا يتبايعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في الجماعة.
وكان المفسرون من التابعين على تباين بلدانهم، يحملون قول الله تعالى: (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله). على ترك البيع والشراء والانصراف للصلوات.
في مكة عطاء بن أبي رباح
وفي البصرة رفيع بن مهران أبو العالية وأيوب والحسن وقتادة ومطر الوراق والربيع بن أنس.
وفي الكوفة السدي والثوري وغيرهما.
وفي خراسان مقاتل بن حيان والضحاك بن مخلد.
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدوا، ولا تكونوا كالذين قال الله عنهم: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً).
سادساً: مضى هذا عملاً وهدياً متبعاً في ممالك المسلمين وحواضر الإسلام، على اختلاف الآفاق، وتباين القرون.
قال أبو طالب المكي (ت:386) في "قوت القلوب" (2/ 437) ذاكراً حال الأسواق السالفين: إذا سمعوا الأذان ابتدروا المساجد، وكانت الأسواق تخلوا من التجار، وكان في أوقات الصلاة معايش للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرونهم التجار بالقراريط والدوانيق يحفظون الحوانيت إلى أوان انصرافهم من المساجد.
وقال أبو حامد الغزالي (ت: 505) في "الإحياء" (2/ 85): كانوا يستأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت في أوقات الصلوات.
وقال ابن تيمية (ت:728) في "الفتاوى" (23/ 411): إذا تعمد الرجل أن يقعد هناك ويترك الدخول إلى المسجد كالذين يقعدون في الحوانيت فهؤلاء مخطئون مخالفون للسنة.
وأكثر المؤرخين لا ينصون عليه لاشتهاره، وإنما يذكرونه على سبيل مناقب الأفراد المخصوصين ببعض الولايات، وبلغ عمل الحكام به أقاصي بلاد الإسلام حتى بلاد المغرب الأقصى كالسلطان أبي عنان المريني حاكم المغرب الاوسط كله، في القرن الثامن كما ذكره أبو زيد الفاسي في "تاريخه" "تاريخ بيوتات فاس" لدى كلامه على بيت بني زَنْبَق ذكر أن السلطان ينيب أبا المكارم منديل بن زنبق ليحرض الناس في الأسواق على الصلاة في أوقاتها ويضرب عليها بالسياط والمقاريع بأمر أمير المؤمنين أبي عنان.
وبقي معمولاً به في جزيرة العرب في الدولة السعودية منذ نشأتها، كما ذكره أحمد معنينو السلوي، في كتابه "الرحلة الحجازية" عام 1348 هـ، حيث ذكر أن الملك عبد العزيز أعاد الناس إلى الطريق القويم: فعندما ينادي حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، يظهر بالأسواق رجال بيدهم عصي يتجولون بالأسواق منادين: الصلاة الصلاة، ويترك أصحاب الدكاكين أمتعتهم وأموالهم والأماكن مفتوحة، ولا أحد يستطيع أن يمد يده إلى الأمتعة والمال.
والأمر بذلك إلى اليوم يؤمر به ويعمل، وأكثر الناس يدعون متاجرهم رغبة لا رهبة.
سابعاً: لما كان الخلفاء الراشدون يأمرون أهل الأسواق بالصلاة جمعة وجماعة، ويؤدبون على التخلف، أخذ بالتأديب والتعزير غير واحد من الخلفاء، فقد ذكر سحنون في "نوازله" أن عمر بن عبدالعزيز يأمر إذا فرغ من صلاة الجمعة من يخرج، فمن وجد لم يحضر الجمعة، ربطه بعمد المسجد.
وكان مالك يخالف قول عمر بن عبدالعزيز بالربط في المسجد، وإنما ينبغي أن يؤدب على ذلك بالسجن أو الضرب، كما نبه عليه ابن رشد في "البيان والتحصيل" (17/ 185).
الجهة الثانية: ما زال البشر على اختلاف أديانهم وبلدانهم يَسُنون لأنفسهم قوانين في البيع والشراء في اليوم والليلة، لمصالح الناس في النوم، حتى لا تضطرب الحياة، من غير نكير، فإذا كان هذا أمراً يُعاقب عليه ولي الأمر لمصلحة النوم ونحوه، والشرع أوقظ النائم لأجل الصلاة وهو يغط في نومه، عُلم أن الأمر بإغلاق المتاجر لمصلحة الصلاة آكد، في حق ولي الأمر، وحق التاجر.
الجهة الثالثة: أن كثيراً ممن يُسَوِّغ فتح المتاجر وقت الصلاة، يورد مصالحَ متوهمة، كحاجة الناس المالية والصحية، والصلوات لا تأخذ إلا دقائق معدودة في كل وقت، وما سمع الناس على مر العصور أن تاجراً خسر وأفلس لإغلاق متجره لأداء صلاته، والناس يُغلقون المتاجر لأجل مصالح الإنسان كالنوم والطعام ونحوهما ليلاً ونهاراً في اليوم الواحد وقتاً طويلاً يجتمع فيه وقت صلوات أسبوع تام وزيادة، وما تحدثوا عن مواضع الربح والخسارة في طلب صحة الأبدان واتباع النظام، فكيف بسلامة الدين.
ولم ير الناس فرداً مات جوعاً على أعتاب المطاعم والمتاجر يطلب الشراب والطعام، والناس منصرفون عن متاجرهم في صلاتهم.
وهذا أمر لا يُحتاج إلى ذكره، ولكننا في كثير من الأحيان نطلب الإقرار بما تراه العيون، وقد
كان طلب الإقرار بما يظهر للعيان ضعة، إذ أننا في زمن أقوى الناس فيه حجة أرفعهم صوتاً.
عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي
شبكة نور الإسلام
http://islamlight.ccell.mobi/index.php?option=*******&task=view&id=18425&Itemid=25
¥