رابعًا: مع ذلك فقد جاء إطلاق لفظ الأخوة على النسب البعيد، مع اختلاف الدين، كما في قوله عز وجلّ تعالى: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً" [الأعراف:65]، وقوله تعالى: "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً" [الأعراف:73]، وقوله تعالى: "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً" [الأعراف:85]، وقوله: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً" [النمل:45]، وقوله سبحانه: "وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ" [الأحقاف:21].
بل جاء إطلاق الأخوة مع عدم وجود نسبٍ بعيد، ومع اختلاف الدين، كما في قوله تعالى: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ [ق:12–13]، وكما في قوله تعالى: "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ" [الشعراء:161]. ومن المعلوم أن لوطًا ابنُ أخي إبراهيم (عليهما السلام)، وليسا ينتسبان إلى الكنعانيين من سُكّان سَدُوم قُرى قومِ لوط (عليه السلام). فهو إطلاقٌ: إما أُرِيدَ به الأخوة البعيدة جدًّا، وهي الأخوة الإنسانية والآدمية. ويكون وَجْهُ ذِكْرِ هذه الأخوة هنا التذكيرَ بكون لوطٍ بشرًا مثلهم، وأنه لذلك محلٌّ للقُدوة به، وليس مَلَكًا ولا من غير جنسهم؛ على غرار قوله تعالى: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ" [الأنعام:9]، وقوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" [التوبة:128].
وإما أُرِيد بالأخوة الملازمة للشيء، لكون لوطٍ (عليه السلام) كان ملازمًا قومَه بالدعوة والإنذار والإعذار. واستعمال الأخوة على الملازمة استعمالٌ عربي فصيح، كما قال امرؤ القيس:
عشيةَ جاوَزْنا حماةَ وسَيْرُنا ... أخو الجَهْدِ لا نلوي على مَن تعذّرا
وقال تأبّط شرًّا:
فقلتُ لها: كلانا نِضْوُ أَيْنٍ ... أخو سفرٍ، فَخَلِّي لي مكاني
ففي هذه الآيات أُطلقت الأخوة مع اختلاف الدين بثلاثة توجيهات:
- الأخوة البعيدة إلى جدِّ القبيلة الذي تنتسب إليه وتجتمع فيه.
- والأخوة البعيدة جدًّا، إلى آدم (عليه السلام)، فهي الأخوة الإنسانية.
- أو بمعنى الملازمة للقوم، مع اختلاف الدين؛ فتنطبق على من يعيش بين ظهراني الكفار، كلوط (عليه السلام) وقومه. وعلى أهل الأرض جميعًا؛ لأنهم قد جمعتهم هذه القرية الكبيرة، وخاصة في زمننا هذا.
وهذا يعني أن إطلاق لفظ الأخوة للكافر، ولو لم يجمعك به نسبٌ قريب أو بعيد، على معنى الأخوّة الإنسانية والآدميّة = إطلاقٌ له سياقٌ مقبول، ويكون فيه جائزًا. لكن لا يمكن أن يكون إطلاقُ هذا التعبيرِ مقبولاً في سياق إذابة الفوارق بين المؤمن والكافر؛ لأنه سيصطدم بمعتقد الولاء والبراء القطعي اليقيني، وسيناقض ما سبق من نصوصٍ عن الأخوةِ الدينية، وأنها مقدمةٌ على أخوّة النَّسَبِ مع اختلاف الدين.
إذن: فمع حياطة معتقد الولاء والبراء من التفتُّتِ والذَّوَبان، ومع حماية الأخوة الدينية من الضعف والتهافت، يمكن في مجال الدعوة والتلطّف مع الكفار أن نطلق لفظ الأخوة عليهم، بمعنى الأخوة الإنسانية. كما أطلقها الله تعالى في سياق بيان منّته على الأقوام الذين بعث فيهم رُسُلاً منهم، ممن يعرفونه بالنسب وكريم الطباع والصفات التي تدعو لقبول دعوته، ولا يأنفون من متابعته؛ لأنه منهم، وليس أجنبيًّا عنهم. أو ممن هو من جنسهم البشري، فلا يدّعون أنه لا يصلح للاقتداء به.
وعلى الذي يستخدم لفظ الأخوة لغير المسلمين لغرضٍ صحيح (كالدعوة) أن لا ينسى في خضمّ ذلك أخوته الدينيةَ العميقةَ الأواصرِ، وأن لا يسمح لنفسه ولا لمن يسمعه ويقتدي به من المسلمين أن تَخْفُتَ جَذْوَةُ الولاء والبراء في نفوسهم. بل لا بد من كثرة التنبيه على هذه الأصول العظمى، مع الفهم الصحيح المُشْرِقِ لها، الذي لا يتضمّن ظُلمًا ولا اعتداءً على غير المسلمين، بل الذي يُظهر عدالةَ معتقد الولاء والبراء عندنا، وحِكْمَتَه في حِفْظِ سِياج العقيدة.
والله الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
[الشريف حاتم بن عارف العوني]
ـ[أبو اليقظان العربي]ــــــــ[13 - 05 - 10, 08:07 م]ـ
¥