ولإقامة هذا الصرح الفكري العتيد كان عليه أن يقوض ما بناه الآخرون من جميع فرق المتكلمين مبيِّناً هفواتهم (من أشاعرة ومعتزلة وباطنية وحشوية) وما أنتجته هذه الهفوات من زيغ عن روح شريعة الأمة الإسلامية إلى ملل ونحل ومذاهب أشد ما تكون على التباين والاختلاف عن طريق الحق الذي ارتضاه الشرع الشريف لنا.
قال: "إن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وإن الظاهر فرض الجمهور، وإن المؤول فرض العلماء. وأما الجمهور فغرضهم فيه حمله على الظاهر وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور. ثم هاجم سائر فرق المتكلمين لعدم استعمالهم للبرهان بالطرق السليمة (11).
وابن رشد يسقط الدليل كليا، متهما المتكلمين بأنهم خطابيون يعالجون القضاء العويصة بعقلية وهمية وأساليب بسيطة عامية تبطل الأسباب والمسببات. ولا يكتفي بهذا الهجوم بل يرى بأن المتكلمين بهذا الاستدلال البسيط يجرمون حيث يجردون خلقُوا من الغاية التي خلق لها، بل نفوا الحكمة عن أفعال - الله تعالى -، وليس في الشرع مطلقا دليل ساذج مثل هذا. فالله عنده كل شيء بمقدار، إشارة إلى قوله تعالى: "الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار" (12)، وعنده كل شيء بحسبان إشارة إلى قوله – سبحانه-: ?الشمس و القمر بحسبان? (13)، وأنه خلق السماوات والأرض بالحق، إشارةً إلى قوله – تعالى-: ?وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق? (14)، وكل أفعاله سبحانه منزَّهةٌ عن العبث، لقوله تعالى: ?أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا? (15)، كما أنه منزه عن اللهو لقوله تعالى: ?وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين? (16).
هذا النظر المميز في الدلائل ونقدها، والنظر في طبقات المخاطبين وتصنيفها بهذه الطريقة هو الذي جعل فلسفته تتميز، والذي زادها طرافة حين قسم الأقيسة إلى ثلاثة أصناف: برهانية وجدلية وخطابية. وتبعا لهذا التقسيم في الأقيسة، قسم الناس إلى ثلاث، يقابلها: البرهانيون والجدليون والخطابيون.
ويدخل في طبقة البرهانيين الفلاسفة (الخاصة)، وفي طبقة الخطابيين جمهور الناس الغالب (العامة)، وفي طبقة الجدليين المتكلمون (وهم دون الفلاسفة درجة، وأعلى في إدراكها عن الجمهور).
واختلافها يعود إلى طرق التصور والتصديق الخاصة بها.
وطرق التصديق منها ما هو وقف على البرهانيين (الخاصة)، ومنها ما هو وقف على الجدليين والخطابيين (العامة) والشرع يشتمل على طرق التصديق الثلاث للخاصة والعامة. وأقاويل الشرع نوعان: صريح لا يحتاج في إدراكه إلى برهان، تأخذ به الخاصة والعامة على ظاهره (وكأنه محكم)، ونوع لا يدرك إلا بالبرهان، وعلى الخاصة أن تؤوله للجمهور محمولا على ظاهره.
فواجب العامة تصديق النصوص وحملها على ظاهرها (كما رأى الأشاعرة)، والمؤولون هم الفلاسفة والراسخون في العلم وحدهم، لكن لا يجب التصريح بهذه التأويل إلا لمن هم أهل لذلك، لأن التأويل يفسد إيمان العامة، ولأن الخطابيين يكفيهم الظاهر للامتثال لأوامر الشرع ونواهيه.
هذا مأخذ ابن رشد على المتكلمين عامة، فرغم تصريحهم بالتأويل، إلا أنه لم يستوف شروط البرهان، ولهذا كانت أكثر تآويلهم سفسطائية غير محكمة. ومثال ذلك الأشاعرة فهم بنوا أقوالهم على أصول عامة تنكر كثيرا من الضروريات كتأثير بعضها ببعض (السببية)، ووجود الأغراض، إضافة إلى المقدمات الواهية في وجود الله، ويكفَّرون من لا يأخذ بأدلتهم.
ومذهب ابن رشد في بنائه المنطقي للأقيسة العقلية، إنما يميز بين طبقات الناس اجتماعيا: الجمهور وأهل البرهان (أي الخاصة والعامة)، والتقسيم مطرد اجتماعيا، يرفع من شأن الفلسفة فيجعلها في أرفع مستويات المعارف البشرية، وبهذا يظهر عنده أن العقل زادُ في الإنسان لاحتوائه أرقى المعارف؛ والوحي لما كان أرقى المعارف وأشرفها درجة لأنها تنحدر من مصدر رباني كان العقل رائدها في البحث.
ورغم المؤثرات الفلسفية الأرسطية في اتجاه ابن رشد في الأقيسة العقلية وأصنافها التي أسس بها لنقد وهدم آراء المتكلمين، فإن هناك بونا شاسعا بينهما؛ لأن أرسطو تحدث عن أصناف القياس ومرتبتها من التصديق، وابن رشد ميز بينها اجتماعيا.
¥