لا يجوز الاختلاف في أي أمر ثبت في الدين بيانه أو حكمه، سواء كان في العقيدة، أو في المنهج، أو في العبادات، أو حتى في السواك. فالاختلاف كله شر لا خير فيه.
?ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم? [آل عمران: (105)]
وقال ابن مسعود: (الخلاف شر) أخرجه البخاري وغيره
ويزداد الخلاف شراً في العقيدة، وفي الأمور التي يترتب عليها أثر عملي.
لكن؛ هل كل خلاف يلزم منه تضليل أحد الطرفين؟
كلا؛ ليس كل خطأ أو خلاف في العقيدة بله غيرها، يكون أصحابه أو أحد الطرفين ضالاً، فمنه ما يكون المخالف ضالاً، ومنه ما يكون مخطئاً مأجوراً، حتى ولو كان في العقيدة، وقد اختلف السلف في أمور كثيرة، تدخل في باب العقيدة وفي غيرها، ومع ذلك لم يضلل أحد الطرفين الآخر.
كالاختلاف في أول الخلق. هل هو القلم أو العرش؟!
وهل الملائكة أفضل أم البشر؟ وهل رأى رسول الله ? ربه ليلة الإسراء؟!
وهل الجنة التي نزل منها آدم هي جنة الخلد أم جنة أخرى؟؟
فأنت ترى أن هذه الخلافات في أمور عقدية .. ومع ذلك، لا يجوز وصف أحد الطرفين بالضلال، ولا يفعل هذا إلا غبي أو خبيث.
ومع التقرير بأن الخلاف في العقيدة -بعامة- أعظم أثراً، وأكبر ضرراً، ولكن؛ ليس كل خلاف في العقيدة يكون أعظم من كل خلاف في العبادات وغيرها.
ألا ترى أن الخلاف في شروط الصلاة أكبر أثراً من الخلاف في أول الخلق، وأن الخلاف في وقوع الطلاق، أعظم أثراً من الخلاف في نبوة أم موسى، أو أم عيسى عليهم الصلاة والسلام.
ولو أن رجلاً مات وهو لا يعلم .. أرأى رسول الله? ربه أم لم يره، لا يضره ذلك في دين ولا عمل، ولا حساب ولا سؤال شيئاً، ولو مات وهو لا يحسن الوضوء، لأضر به ذلك ضرراً بالغاً.
ولو أن المترصدين أدركوا الفرق بين تَعَمُّدِ الخلاف، وبين جواز وقوعه، لما اعترضوا وشنعوا، فإن ثمة فرقاً بين من يخالف النص بهوى وجهل، وهذا هو المحرم، الذي تنصب النصوص عليه، وبين ما يقع من المجتهدين من الخلاف في الفهم. وهذا الذي لا يجوز فيه الطعن بأحد الأطراف، حتى وإن كان الخلاف في العقيدة، () وقاعدة ذلك هو قاعدة الخلاف المعتبر:
- إذا كانت أصول المختلفين صحيحة.
- ومناط استدلالهم معتبراً.
- وهم من أهل الاجتهاد.
- وبذلوا الجهد في ذلك.
ثم اختلفوا .. فلا إثم على أحد منهم، مهما كان موضع الخلاف وشدته.
وقد أفاد هذا شيخ الإسلام بقوله: ((فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد?، وقصد الحق، فأخطأ: لم يكفر؛ بل يغفر له خطؤه. ومن تبين له ما جاء به الرسول?، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين، فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصّر في طلب الحق، وتكلم بلا علم: فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته .. فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال، يكون كافراً؛ بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً)) [الفتاوى (12/ 180)].
وليس في هذا تهوين من شأن العقيدة، وإنما فيه تعظيم لشأن علماء السنة المجتهدين، وحماية جنابهم من أن تطولهم ألسنة الحدثاء، إذا ما سمعوا اختلافاً بين علماء السنة في العقيدة، والله المستعان على هذه الفتن.
هل يجوز أن يلزم أحد أحداً باجتهاد أو رأي؟
لا يجوز أن يلزم أحدٌ أحداً برأيه أو اجتهاده، أو اجتهاد غيره، مهما كان المجتهد أو المجتهدون على علم أو منزلة أو عدد، وسواءً كان هذا الخلاف في العقيدة، أو المنهج، أو العبادات، أو المعاملات، أو الاختلاف في الأعيان.
ولا يجوز إلزامٌ إلا بآية قطعية الدلالة، أو حديث واضح الدلالة، وصحيح الثبوت، أو إجماع متيقن، أو ما اشتهر من مذهب السلف واستقر عليه الأمر، وماعدا ذلك، فلكل اجتهاده، في إطار النصوص، والاجتهاد المعتبر، ومن ألزم بغير ما ذُكِرَ فقد جهل وتعصب.
وربما يدفع بعضَهم الجهلُ والتعصبُ إلى إلزام إخوانهم آراءهَمُ، أو اجتهاداتِ من يقلدونهم، فمن التزم بأقوالهم فهو المهتدي عندهم، ومن لم يلتزم كان -عندهم- ضالاً مبتدعاً، يجب مفارقته، ومفارقة من لا يفارقه، والتبرؤ منه، وممن لا يتبرأ منه، فشقُّوا بذلك الصف، وأحدثوا الفتن، ولا يفعل هذا من كان عنده علم أو دين أو عقل، والله المستعان.
هذا وقد حصل اختلاف شديد بين علماء الأمة في كثير من المجالات، حتى وصل إلى تكفير من ترك بعض الأعمال، كما اختلفوا في تكفير أعيان وجماعات.
فكفَّر طائفة من السلف تارك الصلاة، وكفر طائفة منهم الخوارج، وكفر طائفة منهم من قال بخلق القرآن، ومع هذا الاختلاف الشديد، لم يلزم أحدٌ أحداً برأيه، ولا ضلله لمخالفته، ولا فارقه لإصراره على رأيه، ولا يعرف هذا سلفنا الصالح، وأهل العلم، وأهل الصلاح، وإنما يفعل هذا أهل الفساد. ومن أجهل الجهل، أن يفترق الناس لاجتهادات في أقوال أو أعيان. فلا حول ولا قوة إلا بالله، مما يصنع أهل هذا الزمان.
من كتاب منهج الاعتدال للشيخ عدنان عرعور