ثم لما حَدَثَ في العربِ الأحداثُ, ومن أعظمها تغيير دين إبراهيم وعموم الشرك بالله؛ حَبَسَ الله تعالى عنهم هذا الماء المبارك, فلما نضب البئر وتطاول عليه الدهر طُمر أو انطمر شيئاً فشيئاً حتى لم يبقَ له أثر, ثم تطاول به الدهر حتى ذهبت الأجيال التي كانت تعلم مكانه ومضى على ذلك الأزمنة, حتى إذا كان زمان عبد المطلب بن هاشم ـ جدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن بَقِيَ في الناس من يعلم مكان بئر زمزم.
وقد أجمع أهل العلم بالسِّيَر وأيام الناس قاطبةً على أنَّ الذي أنبط ماءَ زمزم بعد دروسها دهراً مديداً هو عبدُ المطلب, وقيل إنَّ ذلك كان لرؤيا رآها عينت له مكان البئر, ولم يكن ذلك لفضلٍ شرعيٍّ لعبد المطلب فإنه كان على ملة قومه؛ وإنما كان ذلك تمهيداً لهذه النبوة الخاتمة, وتشريفاً للبيت الذي اصطفى الله منه خاتم رسله.
فاحتفر عبد المطلب البئرَ حتى إذا أنبط ماءها اختصَّ نفسَه بالقيام والنظارة عليها دون سائر بني إسماعيل, وأقرته قريشٌ على ذلك ولم ينازعوه, ولم يتملَّكها ولا كان له ذلك ولا يتوهَّمه أحدٌ, لأنه إنما احتفرها في المسجد لا في أرضٍ يملكها ولا في أرضٍ مَوات, فهو تجديدٌ لبئرٍ موقوفة في أرضٍ موقوفة.
ثم لما جاء الله بالإسلام أَقَرَّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هذه الحالَ على ما هي عليه, فالمسجد وقفٌ للطائفين والعاكفين والركَّع السجود يستوي فيه الناس العاكفُ فيه والباد, والله تعالى جعل هذا الماء في هذا المسجد ليكون كذلك وقفاً للمسلمين يستوون فيه ولا يختصُّ به أحدٌ منهم دون أحد.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه في صفة حجَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انْزِعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم).
أي إنه لو نزع معهم لاقتدى الناس به فكثر التنازع على السقاية, فآثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إقرارَ أمر السقاية على حاله, وحرَّضهم على التقرُّب بذلك العمل الصالح.
فزمزم بئرٌ موقوفةٌ لعموم المسلمين, ودليلُ وقفها الشريعة, وأرضها التي هي فيه كذلك أرضٌ موقوفة لا يختص بها أحدٌ دون أحد.
ولأجل أنَّ أصلَ البئر موقوفة, وأنَّ ماءها له خاصيةٌ شرعيةٌ معلومةٌ منصوصٌ عليها, وأنه ماءٌ مباركٌ ليس كسائر مياه الأرض؛ فقد اختلف العلماء في بعض صور استعمال هذا الماء كالاغتسال به والاستنجاء وما أشبه ذلك.
وبحثُ أهل العلم في تلك المسائل إنما هو بحثٌ منهم في الشرط الشرعي لهذه البئر الموقوفة, فكما أنَّ كلَّ واقفٍ له شروط في وقفه, فكذلك الشريعة لما وقفتْ هذا الماءَ المبارك بَحَثَ العلماءُ هل يختصُّ ذلك بالشرب والوضوء أم هو مطلقٌ في كلِّ استعمال؟
وأصل بحثهم هو قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما روى أبو ذرٍّ رضي الله عنه عند مسلم: (إنها مباركة وإنها طعام طعم) , وعند غير مسلم: (وشفاء سقم).
فهذا نصٌّ في مشروعية شرب زمزم والاستشفاء به من غير امتهان له, وألحقوا به الوضوء كذلك, فبقي ما سكتت عنه الشريعة وهو استعماله فيما سوى ذلك كالاغتسال والاستنجاء؛ بقيَ ذلك موضعَ اجتهاد, فمن رآه خارجاً عن الشرط الشرعي (أي ما أذنت به الشريعة) منع منه, ومن لم يجعل ذلك النصَّ شرطاً مُلزماً أباحه مع كراهيته إذا لم يكن لحاجة.
وكذلك لمّا بحث العلماء في حكم بيع ماء زمزم لمن أخذ منه شيئاً بطريقٍ مباحة كان مأخذ بحثهم في ذلك هو: هل حيازة هذا الماء كحيازة غيره من المياه؟ أم هي حيازةٌ لماءٍ موقوفٍ ممنوعٍ مَنْ حازَهُ مِنْ بيعه, مأذونٍ له في استعماله؟ فَتَرى أنَّ وِفاقَ أهلِ العلم واختلافَهم قد كان على أصلٍ واحد هو أنَّ هذا الماء موقوفٌ شرعاً وله من الخاصية الشرعية ما أوجب النظر في تلك المسائل التي لا تَرِدُ في غيره من المياه.
¥