تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ورأيت شاباً انتحل مذهب الحداثيين في التمرد، فجاوز المعهود في قوله، فأُخذ به، فوقف معه الحداثيون وسائر المنحرفين وقوفاً عجيباً، ودافعوا عنه باستماتة حتى ألغوا ما يستحق من العقاب.

وفي مقابل ذلك فإن كثيراً ممن ابتلوا وهم على الحق لم يلتفت لهم أحد، فربما ضعف بعضهم بسبب ذلك، وانقلب على منهجه السابق.

وتفسير خذلان أهل الحق لأتباعهم، ونصرة أهل الباطل لأفراخهم أن أهل الباطل في مجتمعات المسلمين هم الأقلية، وأهل الحق هم الأكثرية، ومن السنن البشرية أن الأقلية دائمة التكتل، وتسعى في تكثير الأتباع، وتكون معتادة على أجواء التوتر، وتتقن التعامل مع الأزمات، بينما الأكثرية تكون في حالة أمن واسترخاء، ولم تعتد على أجواء التوتر، ولا تحس بفقد بعض أفرادها لكثرتهم. كما أن الحكومات قد تعودت من الأقليات على أنواع من التمرد فلا تستنكره منهم مهما كان عظيماً، بخلاف الأكثرية التي يستكثر منها ما هو صغير.

السبب الثاني: الانفصام بين العلم والعمل: فأحياناً يقع الطالب على مخالفة وقع فيها شيخه -وهو يراه مثله الأعلى- فيسقط من عينه، ويجني على نفسه بإسقاط المنهج الذي ينتهجه شيخه، ويبحث له عن منهج آخر، وقد حُدثت عن بعض أهل العلم ممن هام في بعض المبتدعة، فتعصب له أن بداية ذلك: رحلته لشيخ يأخذ عنه، فرأى في بيته ما يكره أن يراه من شيخه، فنفر منه وتحول إلى شيخ مبتدع كان قد سمع به، فرآه على حال من الزهد لم يره في شيخه الأول، فكان ذلك فتنة له؛ فلزمه وهام به، وركب شيئاً من بدعته. ولو أنه أحسن لسأل شيخه عما كره فلعله معذور فيه، أو متأول، أو غير ذلك. ولو وفق للهدى لفرق بين علم الرجل وسمته؛ فليس كل زاهد في الدنيا يصيب السنة، وليس كل مخطئ في سلوكه يهجر لخطئه ولو كان من علماء السنة، والحق يعرف بالأدلة من الشريعة، ولا يعرف الحق بالرجال، كما أن الباطل يعرف بطلانه بالأدلة، ولا يحيله زهد صاحبه إلى حق.

السبب الثالث: ضعف الفقه في علاج خطأ من أخطأ من أهل العلم والصلاح، أو فعل خلاف ما هو أولى أو ما لا يليق بأمثاله، أو أتى بقول شاذ، فيكون حقه التعنيف والتقريع والسخرية في كثير من الأحيان مما يجعله يصر ويكابر ويدافع عن موقفه ولو كان خطأ، وهنا يتسلل الشيطان إلى قلبه، ويركبه أهل السوء والنفاق؛ لتنفيره من أهل استقامة والصلاح، أو يحرج فيجتنبهم فيجد في الطرف الآخر من يحسن استقباله وتسليته.

وأعرف واحداً من النابهين في العلم خالف في مسائل ولم يكن من أهل البلد الذي عاش طيلة عمره فيه، فكأن بعض الحاسدين له اقتنصوا مخالفته فشنعوا عليه وضايقوه حتى فارقهم ورحل عن بلادهم، فتلقفه آخرون، وأحسنوا احتواءه، ووضعوه في مقامه اللائق به علمياً، وسخروا قوته العلمية في تشريع كثير من الرخص على وفق منهجهم، ونقد المنهج السابق بحجة التشدد. ولا شك في أنه يلام في ذلك، لكن النفس البشرية تضعف أمام المضايقات، وتستعبد لإحسان الآخرين ولو كانوا مخالفين في المنهج الصحيح.

ولو تأملنا السنة النبوية لوجدناها مليئة بحفظ مكانة الشخص ولو أخطأ، وعدم الإسراف في الإنكار عليه بتنقيصه والإزراء به، وفرق بين التعرض لشخصه بالهمز واللمز والتعرض لقوله بالتخطئة والنقد، وكثير من الناقدين لا يفرقون بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على الشارب فسبه بعض القوم قال صلى الله عليه وسلم رداً عليهم: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ، وفي رواية: لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ ([20])

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إنزال الناس منازلهم ([21])، ووضعهم في المقام اللائق بهم، وقال في سعد بن معاذ رضي الله عنه: قوموا إلى سيدكم، ([22]) وأنزل سيد قريش أبا سفيان منزلته فقال في الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ([23]) فالنابهون والمميزون وذوو الشأن ليسوا كغيرهم، وينبغي إعطاؤهم حقهم من التوقير والاحترام والاهتمام؛ لأن في تأليفهم خدمة للدعوة وإعزاز للدين بهم.

ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أنه كان يعامل كل أحد بحسب إيمانه وقوته في الحق:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير