إذا تقرر جميع ذلك: فليعلم أن الشرع الشريف يزن الواقعات والأحوال الداخلة تحت قاعدته العامة (الولاء والبراء) بميزان قسط، وقسطاس مستقيم، وسطاً عدلاً بين جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنقص عنه، فتلتقي العفوية للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك من أحوال تنزل على قاعدة رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، فنقول إذاً:
الأصل في الشرع هو: هجر المبتدع لكن ليس عاماً في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع. وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط على أي حال، وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص، والإجماع، وأن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يرعاها الشرع وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة ..
هذا محصل الضوابط الشرعية للهجر (1)، لكن ليحذر كل مسلم من توظيف (هوى نفسه) وتأمير (حظوظها) على نفسه، فإن هذا هلكة في الحق، وهو شر ممن يترك الهجر عصياناً لأنه يعصي الله تعالى بترك الهجر الشرعي للمبتدع، وإظهاره ترك الهجر باسم الشرع تحت غطاء وهمي باسم (المصلحة) و (تأليف القلوب) وهكذا، فالتزام الهجر الشرعي للمبتدع بضوابطه الشرعية لاغير. وعلى هذا التأصيل تتنزل كلمات الأئمة كالإمام أحمد وغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في المسلك الحق في الهجر:
"فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لاترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين المغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم " (2).
فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات (3):
من جهة كونها كفراً أو غير كفر
فالمكفرة مثل: البابية، والبهائية، والقاديانية، وغلاة البريلوية.
وغير المكفرة مثل عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية.
ومن جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً لها
ففرق بين المعلن لبدعته الداعي لها، وبين الكاتم لها لأن الداعية، والمعلن لها، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، هذا وهم في الدرك الأسفل من النار (4).
ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية
فالبدعة الحقيقية هي: البدعة التعبدية المحدثة استقلالاً كصلاة الرغائب، وليست بدعة إضافية، ومثل القول بالقدر، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، وبدعة الموالد، والأعياد الحكومية، وعيد غدير خم لدى الشيعة، وهكذا.
والبدعة الإضافية: هي الأمر المبتدع مضافاُ إلى ما هو مشروع أصلاً بزيادة أو نقص، مثاله:
الدعاء الجماعي بعد الصلاة، فالدعاء مشروع وجعله جماعياً بدعة مضافة لم يرد بها النص، وبناء العبادات على التوقيف، وسجود الشكر جماعة، واتخاذ التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه، وهكذا.
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، أي كونها ظاهرة المأخذ فهي بدعة متمحضة كبدع المآتم والموالد، وصلاة الرغائب ...
أو بدعة فيها احتمال لا ستشباه مأخذها، مثاله: القنوت في صلاتي العشاء والصبح فإنه كان ثم نسخ وبقي المشروع فيها عند النوازل، وشبهة الخلاف لا تصيره مشروعاً راتباً.
¥