وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها وشرائها والتجارة بها، وتجعلها مالاً متقوماً يَحْرم إهداره، بل إن النظم العلمانية تنشئ المصانع لإنتاج الخمور وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز إنتاج، وبالتالي فهي تبيح تصديرها واستيرادها، وعقد الصفقات للتجارة بها، وتحرّم على الأطراف المتعاقدة عدم الالتزام بنصوص العقد أو عدم مطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها .. هكذا كأي سلعة تدخل في نظام التغذية!! ..
وإذن فالعلمانية تحل شرب الخمر وبيعها وعصرها .. فتحل ما حرم الله، وتحرم إهدارها والإنكار على شاربها وعدم الوفاء بالالتزام التعاقدي عليها .. فهي تحرم ما أحله الله.
فالعلمانية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحله الله .. وليس هذا في الزنا والربا والخمر فقط، أو في الحدود والتعاذير فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون الوضعي العلماني .. بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحله الله هي قضية النظام القانوني العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة ..
ولما كان تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله .. كفراً لمن فعله، ومن قبله .. فلا بد لنا لنبقى مسلمين من رفض الكفر .. ورفض شريعة الكفر .. ورفض العلمانية التي تقوم على هذه الشريعة.
2 - كفر بواح:
العلمانية ـ كما أوضحنا ـ هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الدولة، وهذا يعني ـ بداهة ـ الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته سبحانه، وقبول الحكم والتشريع من غير الله .. لذلك فالعلمانية هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار أحاكم غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة ..
وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان ولعلل وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها ..
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القوانين والأحكام التي تعلوا أغلب ديار الإسلام هي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وحتى ما فيها من قوانين لا تخالف الإسلام فإن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربا ولمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه ..
وقد وضع الأمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين عن مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد الإسلام إذ ذاك برئية من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، حتى ولو وافق الصواب حيث يقول: ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبت له معرفته كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه من حيث لا يعرفه ـ غير محمودة والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه ..
وإذا كان هذا هو حكم المجتهد في الفقه الإسلامي على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت من أدلة الكتاب والسنة حتى ولو أصاب، فلا شك أن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله. مخطئون إذا أصابوا، ومجرمون إذا أخطأوا، لأنهم أصابوا عن غير طريق الصواب إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله ..
بل إن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله قد وقعوا في نوع من أنواع الكفر الأكبر وهو كفر التشريع من دون الله، قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة:50]، يقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلا ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجاهلات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها
¥