فلا تلازم بين هذه الإرادات , فقد توجد الإرادة الكونية ولا توجد الإرادة الشرعية , فالكافر حينما يكفر هنا هذه ليس إرادة لله شرعية وإنما إرادة كونية , وحينما يتعلق بالكافر الأمر بالإيمان ثم لا يؤمن تكون قد وجدت فيه الإرادة الشرعية دون الكونية وهي وقوع الإيمان فعلا منه , والمؤمن الذي يؤمن بالله عزوجل يكون قد وجد فيه مقتضى الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
بل ذاك يوجد دون هذا مفردا ** والعكس أيضا ثم يجتمعان
أي يجتمعان بالصورة التي ذكرت وهي إيمان المؤمن.
لن يخلو المربوب من إحداهما ** أو منهما بل ليس ينتفيان
ثم بعد ذلك بدأ يفرق بين هذه الإرادة وهذه الإرادة , وأن الأحكام الشرعية هي التي يحبها الله , وأن الأحكام الكونية لا تستلزم محبة الله لهذا الأمر.
ثم قال:
والحكمة العليا على نوعين ** أيضا حصلا بقواطع البرهان
إحداهما في خلقه سبحانه ** نوعان أيضا ليس يفترقان
إحكام هذا الخلق إذ إيجاده ** في غاية الإحكام والإتقان
وصدوره من أجل غايات له ** وله عليها حمد كل لسان
والحكمة الأخرى فحكمة شرعه ** أيضا وفيها ذانك الوصفان
غاياتها اللاتي حمدن وكونها ** في غاية الإتقان والإحسان
· فإذا علم العبد أن عبده تبارك وتعالى حكيم في شرعه فإنه يستسلم لهذا الشرع ولأمر الله عزوجل , فلا يعترض ولا يتردد في قبول أحكامه وفي التحاكم إلى دينه وشرعه , ثم أنه يرفض بعد ذلك كل شرع يخالف شرع الله عزوجل حكما وتحاكما , ويؤمن إيمانا جازما أن من شرع دينا ونظاما لم يأذن به الله تعالى وادعى أنه أصلح لحياة الناس ومعاشهم , أو ساواه بشرع الله , أو جوز الحكم به , فإنه قد أشرك بالله عزوجل , ومن أطاعه في ذلك على علم فقد أشرك بالله أيضا , ذلك في أن في ذلك الصنيع كفرا بأسماء الله عزوجل وصفاته ومنها اسمه الحكيم , فوق ما فيه من كفر لتوحيد الألوهية وتوحيد الطاعة والإتباع , والله عزوجل يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) , ويقول تبارك وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) , ويقول سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) , فهذه الآيات تقرر أن كل من تحاكم لغير شرع الله عزوجل فهو مشرك به تبارك وتعالى.
· يقول العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في التعليق على قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) يقول: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك فيه , جاء مبينا في آيات أخر , كقوله تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) , وقوله تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ .. ) الآية , وقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ .. ) الآية , وقوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) , وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) , وقوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) , وقوله (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) , وقوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) إلى غير ذلك من الآيات , ويفهم من ذلك كقوله (ولا يشرك في حكمه أحدا) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله , أنهم مشركون بالله , وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخرى كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة
¥